أميـرالقوافــل
04-09-2008, 11:23 AM
صبحي درويش
يعد (بيير بورديو) عالم الاجتماع الفرنسي الشهير أحد أبرز الأعلام الفكرية في القرن العشرين. يحتل مكانة مميزة في حقل الدراسات الإنسانية . شهد علم الاجتماع على يديه إبداعا علميا رائعا، وتجديدا فكريا حقيقيا في المصطلحات والمضامين والدور والأهداف. فقد أحدث الرجل في تحليله للظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية تغييرا في حقل الدراسات الثقافية والأبحاث الاجتماعية النقدية وفي مفهوم علم الاجتماع نفسه. لقد هالني إنتاجه الفكري الغزير والمتميز، واطلاعه الواسع، وإرادته القوية والشجاعة في تطبيق الأفكار والمبادئ التي نادى بها في أعماله الفكرية وتصميمه الحاسم على ترجمتها إلى سلوك ومواقف وممارسات عملية من خلال مشاركاته ومداخلاته الشخصية في المظاهرات والحركات الاجتماعية والسياسية.
كان (بورديو) مفكرا فذا ،عالمي الثقافة ،وانساني التوجه ومن أبرز المثقفين المناضلين في تاريخ النضال الاجتماعي والسياسي والثقافي في القرن العشرين. لقد انخرط (بورديو) في معمعة الفكر العالمي الجياش وشارك عمليا في حراك مجتمعه وكون لنفسه رؤية خاصة في الشأن الفرنسي خصوصا وفي الشأن الإنساني عموما وراح يكتب بحماس ملتهب وبغزارة جارفة، وقد أكسبته هذه الرؤية العميقة الواسعة وذلك النضال الفاعل مكانة عالمية وجعلته نموذجا رائعا للإقدام في الفكر والفعل. وتذكرنا شخصيته الفذة المؤثرة بالمفكر الايطالي (انطونيو غرامشي)، و الفيلسوف (جان بول سارتر)، والفيلسوف (ميشيل فوكو)، والمبدع والمفكر (جورج أورويل)، والفيلسوف (برتراند رسل)، فقد كانوا جميعا من المفكرين الذين يعملون ما يقولون، ويجمعون بين القول والفعل، والمبدأ والسلوك، وبين الإنتاج الفكري المتميز والممارسة النضالية العملية التي تدافع عن القضايا والمبادئ التي نادوا بها. وفي تقديري يبقى في تاريخ الفكر الاجتماعي، كتاب المقدمة لابن خلدون له الفضل والأسبقية على رواد علم الاجتماع في العصر الحديث من أمثال (ميكيافلي) و (فيكو) و (مونتسكيو) و (هيجل) و (ماركس) و (كونت سبنسر) و (دوركهايم) و (ماكس فيبر)، في تأسيس علم الاجتماع. وأفضل من تمثّل نظرية (ابن خلدون) ودرسها بعمق واستفاد من المنهج الخلدوني في الدراسة هو عالم الاجتماع المرموق (علي الوردي) وكتابه (منطق ابن خلدون)هو من أفضل الأعمال التي شرحت ابن خلدون ويسرت فهم نظريته، وأحاطت بالظروف التاريخية التي وضع فيها العلامة ابن خلدون نظريته الشهيرة. يصف المؤرخ البريطاني (آرنولد توينبي) كتاب مقدمة ابن خلدون بأنه أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي زمان أو مكان
It Is The Best Work Of Its Kind That Is Created By Mind In Any Tim Or Place
ومن أهم ما قام به (ابن خلدون) في تاريخ الفكر الاجتماعي انه قام بأول محاولة جدية للنزول بالفلسفة من عليائها وللدخول بها في معترك الحياة الواقعي. وما زالت الكثير من الأفكار الخلدونية تتمتع بالصمود حتى اليوم مثل(آلية السوق) و(آلية الحكم) وأثر (العدل) في ديمومته
ولد (بيير بورديو)في الأول من آب 1930م في منطقة (دنكه) من (بيآرن)في جنوب فرنسا .كان أبوه موظفا حكوميا في مكتب البريد ومن أصل ريفي. درس بورديو الفلسفة في مدرسة المعلمين العليا في باريس ونال فيها شهادة الأستاذية في الفلسفة في عام 1954م. وكان (جاك دريدا) الفيلسوف الفرنسي الشهير من الذين تخرجوا في نفس الدورة. أطلع بورديوعلى أعمال (ماركس) (وجان بول سارتر) وفي الوقت الذي كان المذهب الوجودي يطغى على الأوساط الفلسفية، توجه بورديو نحو دراسة المنطق وتاريخ العلوم ثم تابع حلقة دراسية في التعليم العالي حول فلسفة الحق عند هيجل.ولكن بعد تجربة قصيرة له كأستاذ في إحدى الثانويات دعي من قبل المكتب النفسي للجيوش في مدينة فرساي ولكن لأسباب تأديبية أرسل بسرعة إلى الجزائر في إطار إحلال السلام حيث أدى هناك القسم الأساسي من خدمته العسكرية. ومن 1958الى1960م تمنى أن يتابع دراساته عن الجزائر.فدرس في كلية الآداب في الجزائر واهتم بالدراسات الأنثروبولوجيية والاجتماعية و كتب بعد عودته إلى فرنسا مباشرة كتابا بعنوان (سوسيولجيا الجزائر) ثم أصدر كتابا آخر بعنوان (أزمة الزراعة التقليدية في الجزائر). وبدأ يدرس الفلسفة في السوربون ثم أصبح مديرا لقسم الدراسات في مدرسة الدراسات العليا، ثم مديرا لمعهد علم الاجتماع الأوربي، كما انتخب عام 1982م لكرسي علم الاجتماع في «الكوليج دو فرانس»وهي أعلى هيئة علمية في فرنسا. وكانت محاضرته الافتتاحية في «الكوليج دو فرانس» بعنوان درس في درس وقد جال فيها بجدارة في ميادين النقد الاجتماعي والسياسي والتربوي والنفسي وختمها بالتحذير من ظاهرة التسامي الزائف التي تنشأ عن إساءة استخدام المعرفة. وهكذا ظل يدرس ويحاضر فيها لغاية عام 2001م. كان بيير بورديو على موعد مع الشهرة مبكرا بعد إصداره كتاب (الورثة) بالاشتراك مع (جون كلود باسرون) ولكن تألق نجمه مع ثورة الطلاب عام 1968م التي جذبت وركزت أنظار المجتمع الفرنسي ووسائل الإعلام على الجامعة والنظام التعليمي.
وقف بورديو على الدوام ضد النظام التعليمي القائم على تلقين المعلومات ونقد بشدة المدارس ومناهجها وحسب رأيه يجب أن تكتفي الدولة بتعليم التعليم وتدريب الناس على تحصيل المعرفة فالرجل يرفض الادلجة ولا يقبل أية شبهة للتأثير السياسي في التعليم.
طور (بورديو) عددا من المفاهيم والاستعارات القوية من أجل صياغة تحليله لعلاقة القوة والسيطرة في الفضاء الاجتماعي وقد أسس الرجل لموقفه النظري من خلال مقال كتبه عام 1970م بعنوان (مخطط تمهيدي لنظرية الممارسة). وهذا المقال يستحق الإعجاب فعلا.
ومن المفاهيم الأساسية التي استخدمها بورديو في تحليله: «إعادة الإنتاج» و«الحقل» و«رأس المال الرمزي» و« العنف الرمزي» و«العرف» و«الانعكاسية»
إذا كان بورديو قضى شطرا من حياته في البحث الاجتماعي وتحليل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد كرس السنوات الأخيرة من حياته المعرفية والعملية في العمل النضالي السلمي والمشاركة السياسية الفاعلة ضد الأشكال الجديدة من السلطة السياسية والاقتصادية
وأصدر في هذه المرحلة مجموعة كتب قيمة أذكر منها: (بؤس العالم) و(علل عملية.في نظرية الفعل) و(عن التلفزيون)و(تأملات باسكالية) و(السيطرة الذكورية) و(البنيات الاجتماعية للاقتصاد)و(علم العلم والانعكاسية) و(تدخلات.العلم الاجتماعي والعمل السياسي) و(توطئة لتحليل ذاتي)
يرى بورديو ليس جديا أن نفكر في السياسة دون أن نتحلى بتفكير سياسي ، ولا يمكن فهم ظاهرة ما دون تحليل بنيتها والآليات التي تحكمها وتعمل وفقا لها.وفي رأيه أن تحليل الواقع الاجتماعي ونقده يساهم في تغييره.
تعود علاقة بورديو بالسياسة إلى فترة حرب الجزائر ويرى الرجل أن العلوم الاجتماعية لا تستحق الاهتمام إن لم تكن في خدمة الإنسان والمجتمع وان لم تكشف آليات الهيمنة السائدة في المجتمع. يقول بورديو في كتاب (إعادة الإنتاج) من المفهوم أن علم الاجتماع كان مرتبطا جزئيا بالقوى التاريخية التي كانت تحدد طبيعة علاقات القوى التي يجب الكشف عنها في كل حقبة من حقب التاريخ. المشكلة السياسية الخاصة كانت تلك المتعلقة بنشر الأعمال العلمية المتقدمة التي تسمح بفهم وتقدير أكثر ديمقراطية بقدر المستطاع للنتائج التي يتوصل إليها علم الاجتماع (في مقابل البحوث العملية التي تتم حسب طلب الهيئات والمؤسسات الحاكمة التي تستخدم العلوم الاجتماعية من أجل أن تتحكم بشكل أفضل وتهيمن بفاعلية على الخاضعين لهيمنتها. ولم يكن من باب المصادفة صدور كتاب بؤس العالم في عام 1993م قبل الانتخابات الفرنسية.هذا الكتاب الضخم هو ثمرة سنوات من العمل البحثي الكبير الذي شارك فيه عشرات من الباحثين الذين عملوا بالتعاون الوثيق مع بورديو وقد كان الهدف الأساسي منه الكشف عن المعاناة الاجتماعية الناتجة عن سياسة الليبرالية الجديدة . لازلت أذكر شخصيا كيف لاقى هذا الكتاب اهتماما إعلاميا كبيرا في فرنسا جعل من بورديو شخصية عامة ومؤثرة.
ثم اصدر بعد ذلك سلسلة من الكتب تدور موضوعاتها حول قضايا سياسية ساخنة وكان الهدف من ورائها دفع الدراسات التي تقوم بها العلوم الإنسانية إلى ميدان النضال السياسي. ومن أجمل كتبه كتابه الرائع عن التلفزيون. حلل بورديو فيه حالة وسائل الإعلام وهاجم التلفزيون وأعتبره جهازا مدمرا لأنه يستخدم مخزن النظام الرمزي ليشيع خطرا كبيرا في ميادين الإنتاج الثقافي والفني والأدبي والعلمي والفلسفي والقانوني كما انه يشيع خطرا لا يقل عن ذلك للحياة السياسية والديمقراطية وكذلك يشيع التفاهة في المشاهدين ويقدم ثقافة سريعة حسب تعبيره .
من الصعب على أي كاتب أو باحث أن يلم إلماما تاما بفكر وأعمال المفكر الفرنسي بيير بورديو . فقد عاش الرجل فترة حاسمة من التاريخ الإنساني ، فبين ميلاده في الأول من آب عام 1930م ووفاته في الثالث والعشرين من كانون الثاني 2002م، اثنان وسبعون عاما من العمل الجاد المتواصل، أبدع خلالها ما يزيد عن ثلاثين كتاب، إلى جانب مئات المقالات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والفن والأدب.
كتب كتابه الأول عن سوسيولوجيا الجزائر، وأنا لم أولد بعد ولكنني والحق يقال لو لم تتح الفرصة لأن أقيم وأدرس في باريس قبل أكثر من ربع قرن لكنت قد عشت ومت من دون أن أطلع على كل كتبه وأقرأ كل ما جرى به قلمه، وأنصح باقتنائها والاطلاع عليها. ومن حسن الحظ أتيح لي أن أتقن اللغة الفرنسية واللغة الانكليزية المليئتين بالمراجع في جميع الاختصاصات والعلوم. وأعتقد أن معظم مؤلفات بورديو إن لم يكن كلها غير مترجم إلى العربية وإذا ماترجم فنادرا أن تكون الترجمة صحيحة أو موثوقة.
تضم مؤلفات بورديو هذه النفائس: (سوسيولوجيا الجزائر) ، و (الورثة.الطلبة والثقافة) ، و (إعادة الإنتاج.أصول نظرية في نظام التعليم) ، و (التمييزـ التميز.النقد الاجتماعي لحكم الذوق) ، و (الحس العملي) ، و (ما معنى أن نتكلم.اقتصاد التبادلات اللغوية) ، و (درس في الدرس) ، (ومسائل في علم الاجتماع) ، و (الإنسان الأكاديمي) ، و (الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدغر) ، و (منطق الممارسة) ، و (إجابات. من أجل إنسيات انعكاسية) ، و (قواعد الفن) ، و(بؤس العالم) ، و (علل عملية.في نظرية الفعل) ، و (عن التلفزيون) ، و (تأملات باسكالية) ، و (السيطرة الذكورية) ، و (البنيات الاجتماعية للاقتصاد) ، و (علم العلم والانعكاسية) ، و (تدخلات.العلم الاجتماعي والعمل السياسي) ، و (توطئة لتحليل ذاتي).
عندما يموت مفكر أو مبدع كبير يشعر الإنسان بالحزن ، يشعر بأن نجمة ما قد انطفأت ...ومع رحيل بورديو في الثالث والعشرين من كانون الثاني عام 2002م وبعد مسيرة علمية وفكرية تضعه في زمرة المجددين الكبار ...انطفأ نجم كبير في سماء باريس
يعد (بيير بورديو) عالم الاجتماع الفرنسي الشهير أحد أبرز الأعلام الفكرية في القرن العشرين. يحتل مكانة مميزة في حقل الدراسات الإنسانية . شهد علم الاجتماع على يديه إبداعا علميا رائعا، وتجديدا فكريا حقيقيا في المصطلحات والمضامين والدور والأهداف. فقد أحدث الرجل في تحليله للظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية تغييرا في حقل الدراسات الثقافية والأبحاث الاجتماعية النقدية وفي مفهوم علم الاجتماع نفسه. لقد هالني إنتاجه الفكري الغزير والمتميز، واطلاعه الواسع، وإرادته القوية والشجاعة في تطبيق الأفكار والمبادئ التي نادى بها في أعماله الفكرية وتصميمه الحاسم على ترجمتها إلى سلوك ومواقف وممارسات عملية من خلال مشاركاته ومداخلاته الشخصية في المظاهرات والحركات الاجتماعية والسياسية.
كان (بورديو) مفكرا فذا ،عالمي الثقافة ،وانساني التوجه ومن أبرز المثقفين المناضلين في تاريخ النضال الاجتماعي والسياسي والثقافي في القرن العشرين. لقد انخرط (بورديو) في معمعة الفكر العالمي الجياش وشارك عمليا في حراك مجتمعه وكون لنفسه رؤية خاصة في الشأن الفرنسي خصوصا وفي الشأن الإنساني عموما وراح يكتب بحماس ملتهب وبغزارة جارفة، وقد أكسبته هذه الرؤية العميقة الواسعة وذلك النضال الفاعل مكانة عالمية وجعلته نموذجا رائعا للإقدام في الفكر والفعل. وتذكرنا شخصيته الفذة المؤثرة بالمفكر الايطالي (انطونيو غرامشي)، و الفيلسوف (جان بول سارتر)، والفيلسوف (ميشيل فوكو)، والمبدع والمفكر (جورج أورويل)، والفيلسوف (برتراند رسل)، فقد كانوا جميعا من المفكرين الذين يعملون ما يقولون، ويجمعون بين القول والفعل، والمبدأ والسلوك، وبين الإنتاج الفكري المتميز والممارسة النضالية العملية التي تدافع عن القضايا والمبادئ التي نادوا بها. وفي تقديري يبقى في تاريخ الفكر الاجتماعي، كتاب المقدمة لابن خلدون له الفضل والأسبقية على رواد علم الاجتماع في العصر الحديث من أمثال (ميكيافلي) و (فيكو) و (مونتسكيو) و (هيجل) و (ماركس) و (كونت سبنسر) و (دوركهايم) و (ماكس فيبر)، في تأسيس علم الاجتماع. وأفضل من تمثّل نظرية (ابن خلدون) ودرسها بعمق واستفاد من المنهج الخلدوني في الدراسة هو عالم الاجتماع المرموق (علي الوردي) وكتابه (منطق ابن خلدون)هو من أفضل الأعمال التي شرحت ابن خلدون ويسرت فهم نظريته، وأحاطت بالظروف التاريخية التي وضع فيها العلامة ابن خلدون نظريته الشهيرة. يصف المؤرخ البريطاني (آرنولد توينبي) كتاب مقدمة ابن خلدون بأنه أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي زمان أو مكان
It Is The Best Work Of Its Kind That Is Created By Mind In Any Tim Or Place
ومن أهم ما قام به (ابن خلدون) في تاريخ الفكر الاجتماعي انه قام بأول محاولة جدية للنزول بالفلسفة من عليائها وللدخول بها في معترك الحياة الواقعي. وما زالت الكثير من الأفكار الخلدونية تتمتع بالصمود حتى اليوم مثل(آلية السوق) و(آلية الحكم) وأثر (العدل) في ديمومته
ولد (بيير بورديو)في الأول من آب 1930م في منطقة (دنكه) من (بيآرن)في جنوب فرنسا .كان أبوه موظفا حكوميا في مكتب البريد ومن أصل ريفي. درس بورديو الفلسفة في مدرسة المعلمين العليا في باريس ونال فيها شهادة الأستاذية في الفلسفة في عام 1954م. وكان (جاك دريدا) الفيلسوف الفرنسي الشهير من الذين تخرجوا في نفس الدورة. أطلع بورديوعلى أعمال (ماركس) (وجان بول سارتر) وفي الوقت الذي كان المذهب الوجودي يطغى على الأوساط الفلسفية، توجه بورديو نحو دراسة المنطق وتاريخ العلوم ثم تابع حلقة دراسية في التعليم العالي حول فلسفة الحق عند هيجل.ولكن بعد تجربة قصيرة له كأستاذ في إحدى الثانويات دعي من قبل المكتب النفسي للجيوش في مدينة فرساي ولكن لأسباب تأديبية أرسل بسرعة إلى الجزائر في إطار إحلال السلام حيث أدى هناك القسم الأساسي من خدمته العسكرية. ومن 1958الى1960م تمنى أن يتابع دراساته عن الجزائر.فدرس في كلية الآداب في الجزائر واهتم بالدراسات الأنثروبولوجيية والاجتماعية و كتب بعد عودته إلى فرنسا مباشرة كتابا بعنوان (سوسيولجيا الجزائر) ثم أصدر كتابا آخر بعنوان (أزمة الزراعة التقليدية في الجزائر). وبدأ يدرس الفلسفة في السوربون ثم أصبح مديرا لقسم الدراسات في مدرسة الدراسات العليا، ثم مديرا لمعهد علم الاجتماع الأوربي، كما انتخب عام 1982م لكرسي علم الاجتماع في «الكوليج دو فرانس»وهي أعلى هيئة علمية في فرنسا. وكانت محاضرته الافتتاحية في «الكوليج دو فرانس» بعنوان درس في درس وقد جال فيها بجدارة في ميادين النقد الاجتماعي والسياسي والتربوي والنفسي وختمها بالتحذير من ظاهرة التسامي الزائف التي تنشأ عن إساءة استخدام المعرفة. وهكذا ظل يدرس ويحاضر فيها لغاية عام 2001م. كان بيير بورديو على موعد مع الشهرة مبكرا بعد إصداره كتاب (الورثة) بالاشتراك مع (جون كلود باسرون) ولكن تألق نجمه مع ثورة الطلاب عام 1968م التي جذبت وركزت أنظار المجتمع الفرنسي ووسائل الإعلام على الجامعة والنظام التعليمي.
وقف بورديو على الدوام ضد النظام التعليمي القائم على تلقين المعلومات ونقد بشدة المدارس ومناهجها وحسب رأيه يجب أن تكتفي الدولة بتعليم التعليم وتدريب الناس على تحصيل المعرفة فالرجل يرفض الادلجة ولا يقبل أية شبهة للتأثير السياسي في التعليم.
طور (بورديو) عددا من المفاهيم والاستعارات القوية من أجل صياغة تحليله لعلاقة القوة والسيطرة في الفضاء الاجتماعي وقد أسس الرجل لموقفه النظري من خلال مقال كتبه عام 1970م بعنوان (مخطط تمهيدي لنظرية الممارسة). وهذا المقال يستحق الإعجاب فعلا.
ومن المفاهيم الأساسية التي استخدمها بورديو في تحليله: «إعادة الإنتاج» و«الحقل» و«رأس المال الرمزي» و« العنف الرمزي» و«العرف» و«الانعكاسية»
إذا كان بورديو قضى شطرا من حياته في البحث الاجتماعي وتحليل الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد كرس السنوات الأخيرة من حياته المعرفية والعملية في العمل النضالي السلمي والمشاركة السياسية الفاعلة ضد الأشكال الجديدة من السلطة السياسية والاقتصادية
وأصدر في هذه المرحلة مجموعة كتب قيمة أذكر منها: (بؤس العالم) و(علل عملية.في نظرية الفعل) و(عن التلفزيون)و(تأملات باسكالية) و(السيطرة الذكورية) و(البنيات الاجتماعية للاقتصاد)و(علم العلم والانعكاسية) و(تدخلات.العلم الاجتماعي والعمل السياسي) و(توطئة لتحليل ذاتي)
يرى بورديو ليس جديا أن نفكر في السياسة دون أن نتحلى بتفكير سياسي ، ولا يمكن فهم ظاهرة ما دون تحليل بنيتها والآليات التي تحكمها وتعمل وفقا لها.وفي رأيه أن تحليل الواقع الاجتماعي ونقده يساهم في تغييره.
تعود علاقة بورديو بالسياسة إلى فترة حرب الجزائر ويرى الرجل أن العلوم الاجتماعية لا تستحق الاهتمام إن لم تكن في خدمة الإنسان والمجتمع وان لم تكشف آليات الهيمنة السائدة في المجتمع. يقول بورديو في كتاب (إعادة الإنتاج) من المفهوم أن علم الاجتماع كان مرتبطا جزئيا بالقوى التاريخية التي كانت تحدد طبيعة علاقات القوى التي يجب الكشف عنها في كل حقبة من حقب التاريخ. المشكلة السياسية الخاصة كانت تلك المتعلقة بنشر الأعمال العلمية المتقدمة التي تسمح بفهم وتقدير أكثر ديمقراطية بقدر المستطاع للنتائج التي يتوصل إليها علم الاجتماع (في مقابل البحوث العملية التي تتم حسب طلب الهيئات والمؤسسات الحاكمة التي تستخدم العلوم الاجتماعية من أجل أن تتحكم بشكل أفضل وتهيمن بفاعلية على الخاضعين لهيمنتها. ولم يكن من باب المصادفة صدور كتاب بؤس العالم في عام 1993م قبل الانتخابات الفرنسية.هذا الكتاب الضخم هو ثمرة سنوات من العمل البحثي الكبير الذي شارك فيه عشرات من الباحثين الذين عملوا بالتعاون الوثيق مع بورديو وقد كان الهدف الأساسي منه الكشف عن المعاناة الاجتماعية الناتجة عن سياسة الليبرالية الجديدة . لازلت أذكر شخصيا كيف لاقى هذا الكتاب اهتماما إعلاميا كبيرا في فرنسا جعل من بورديو شخصية عامة ومؤثرة.
ثم اصدر بعد ذلك سلسلة من الكتب تدور موضوعاتها حول قضايا سياسية ساخنة وكان الهدف من ورائها دفع الدراسات التي تقوم بها العلوم الإنسانية إلى ميدان النضال السياسي. ومن أجمل كتبه كتابه الرائع عن التلفزيون. حلل بورديو فيه حالة وسائل الإعلام وهاجم التلفزيون وأعتبره جهازا مدمرا لأنه يستخدم مخزن النظام الرمزي ليشيع خطرا كبيرا في ميادين الإنتاج الثقافي والفني والأدبي والعلمي والفلسفي والقانوني كما انه يشيع خطرا لا يقل عن ذلك للحياة السياسية والديمقراطية وكذلك يشيع التفاهة في المشاهدين ويقدم ثقافة سريعة حسب تعبيره .
من الصعب على أي كاتب أو باحث أن يلم إلماما تاما بفكر وأعمال المفكر الفرنسي بيير بورديو . فقد عاش الرجل فترة حاسمة من التاريخ الإنساني ، فبين ميلاده في الأول من آب عام 1930م ووفاته في الثالث والعشرين من كانون الثاني 2002م، اثنان وسبعون عاما من العمل الجاد المتواصل، أبدع خلالها ما يزيد عن ثلاثين كتاب، إلى جانب مئات المقالات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والفن والأدب.
كتب كتابه الأول عن سوسيولوجيا الجزائر، وأنا لم أولد بعد ولكنني والحق يقال لو لم تتح الفرصة لأن أقيم وأدرس في باريس قبل أكثر من ربع قرن لكنت قد عشت ومت من دون أن أطلع على كل كتبه وأقرأ كل ما جرى به قلمه، وأنصح باقتنائها والاطلاع عليها. ومن حسن الحظ أتيح لي أن أتقن اللغة الفرنسية واللغة الانكليزية المليئتين بالمراجع في جميع الاختصاصات والعلوم. وأعتقد أن معظم مؤلفات بورديو إن لم يكن كلها غير مترجم إلى العربية وإذا ماترجم فنادرا أن تكون الترجمة صحيحة أو موثوقة.
تضم مؤلفات بورديو هذه النفائس: (سوسيولوجيا الجزائر) ، و (الورثة.الطلبة والثقافة) ، و (إعادة الإنتاج.أصول نظرية في نظام التعليم) ، و (التمييزـ التميز.النقد الاجتماعي لحكم الذوق) ، و (الحس العملي) ، و (ما معنى أن نتكلم.اقتصاد التبادلات اللغوية) ، و (درس في الدرس) ، (ومسائل في علم الاجتماع) ، و (الإنسان الأكاديمي) ، و (الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدغر) ، و (منطق الممارسة) ، و (إجابات. من أجل إنسيات انعكاسية) ، و (قواعد الفن) ، و(بؤس العالم) ، و (علل عملية.في نظرية الفعل) ، و (عن التلفزيون) ، و (تأملات باسكالية) ، و (السيطرة الذكورية) ، و (البنيات الاجتماعية للاقتصاد) ، و (علم العلم والانعكاسية) ، و (تدخلات.العلم الاجتماعي والعمل السياسي) ، و (توطئة لتحليل ذاتي).
عندما يموت مفكر أو مبدع كبير يشعر الإنسان بالحزن ، يشعر بأن نجمة ما قد انطفأت ...ومع رحيل بورديو في الثالث والعشرين من كانون الثاني عام 2002م وبعد مسيرة علمية وفكرية تضعه في زمرة المجددين الكبار ...انطفأ نجم كبير في سماء باريس