دليل القوافــل
17-06-2008, 01:06 PM
محمد بن عيسى الكنعان
غالباً ما يدور سجال فكري متضاد بين مفكرين وكتاب رأي وأكاديميين من مختلف التيارات الفكرية والمدارس الفلسفية حول العلاقة بين الدين والعلم، من حيث (الهيمنة) بسيادة الدين على العلم، أو (العلمنة) بالفصل التام بينهما، أو خضوعهما للعقل على نفس الدرجة، ما يعكس حقيقة الرغبة الجادة لدى الكثير منهم في محاولة صياغة مشروع نهضوي
يكون عامل مساهم في خلاص الأمة من مأزقها الحضاري الراهن، خاصة ً أن هذا السجال الواعي في الفكر، والراقي في الطرح، ينطلق بالدرجة الأولى من تأكيد اعتبار (الدين)، وأهمية (العلم) في مشروع النهضة المنشودة لأية أمة، كونه يرسم أول خطوط تقدمها الصناعي، ويضع أهم قيم رقيها الحضاري، ويشكل كل أنماط مدنيتها في المجالات المختلفة من سياسة واقتصاد وإعلام وغيرها.
إذاً نحن إزاء اتجاهين في تقرير واقع تلك العلاقة، اتجاه (هيمنة الدين)، وآخر (علمنة العلم). القائلون بوجوب فصل العلم عن الدين أي (اتجاه علمنة العلم) ينطلقون من أربع مسوغات رئيسة، الأولى أن الدين ثابت والعلم متغير، سواء ً في السياق التاريخي أو المشروع الحضاري، والثانية أن العلم يخضع للعقل في إطار المعرفة وبحكم التجربة، والدين لا يقبل هذا الخضوع كونه وحياً سماوياً، بينما الثالثة أن الدين يتعاطى مع مسائل غيبية لا مجال لإنكارها أو الخوض فيها، في مقابل العلم الذي لا يعترف إلا بالمسائل الحسية، أما الرابعة فلأن التجربة الغربية الحضارية تبرهن على وجوب هذا الفصل، فالحركة العلمية والنهضة الفكرية لم تتحققا للعالم الغربي وتُعتقاه من الاستبداد الكنسي أو الطغيان الإقطاعي إلا باستبعاد الدين من مصادر المعرفة، وفصله بشكل تام عن العلم.
هنا سأحاول أن أكون واضحاً في مناقشتي لهذه العلاقة الجدلية، معلناً في الوقت نفسه انحيازي الكامل إلى الرأي القائل بوجوب سيادة الدين على العلم (اتجاه هيمنة الدين)، مع الرفض التام لأية دعوة تبرر الفصل بينهما إلا في مسألة الخاصية الطبيعية لهما، أما الفصل بينهما وفق الناحية الوظيفية فهي دعوى خطيرة تهدد أي مشروع حضاري للأمة وتلغي هويتها الدينية، كونها لا تقل خطورة عن دعوى فصل (الدين عن الدنيا)، التي تستبعد المرجعية الإسلامية في كل شؤون الحياة، لذا سيكون تعليقي على هذه القضية الحيوية (علاقة الدين بالعلم)، التي لازالت تشغل العقلية العربية منذ أن وقفت على التجربة الحضارية الغربية ودرست حركتها التاريخية، وعرفت مكامن تفوقها، من خلال ثلاثة محاور رئيسة.. الأول (الموقف الديني) الذي يُجسّد حقيقة موقف الإسلام من العلم، والثاني (الشاهد التاريخي) الذي يشير إلى التجربتين الحضاريتين الغربية والإسلامية على حد ٍسواء، من واقع التبصر في سياق كل تجربة ومنطلقها الأساسي، أما المحور الثالث فهو (النقاش الفكري) لمسوغات الرأي القائل بوجوب علمنة علاقة الدين بالعلم، التي تمت الإشارة لها.
أولا ً.. (الموقف الديني: موقف الإسلام من العلم)..
يتجلى موقف الإسلام الإيجابي من العلم، في رفع (منزلة العلم) وإعلاء (شأن العقل)، هذه المنزلة العظيمة تحققت مع نزول أول كلمات الوحي (اقرأ)، فكان العلم فريضة شرعية وضرورة حياتية، أي القاسم المشترك بين الدين (العبادات)، والدنيا (المعاملات)، حيث دعا القرآن الكريم وحثت السنة النبوية على (العلم)، لأنه مفتاح معرفة دلائل القدرة الإلهية، فكان ظهور الإسلام (نقطة التحول التاريخي الكبير) في العقل البشري الجاهلي من الظلمات إلى النور، من ظلمات الوثنيات والفلسفات الضالة وعلوم الزندقة إلى نور الإسلام والمعارف الإنسانية والعلوم الطبيعية، التي تعمق الناحية الإيمانية وتدفع بالعطاء الإنساني نحو العمران وفق منهج الله، لهذا كانت (اقرأ) أول القيم المعرفية الحضارية على مستوى البشرية، كما أن إعلاء شأن (العقل) توافق مع تحقيق منزلة العلم منذ بزوغ فجر الإسلام، الذي احترم عقل الإنسان، بدعوته إلى النظر والتفكر في (الإنسان ذاته) و(الكون المحيط)، خاصة ً أن هذه الدعوة تعد منهجاً إنسانياً فريداً، مسطوراً بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، حيث قام على تفضيل درجة العلم على العبادة، ورفض كل دعوى بغير برهان يسندها أو يثبتها، ورفض اتباع الظن والهوى للفرد، أو التبعية والتقليد للآخر، كما أكد محاربة الخرافة والزندقة بسحر أو كهانة أو دجل، لأن ذلك أو بعضه يُصادم العلم ويُصادر العقل، أيضاً احتفى بكل علم ٍ نافع ٍ للدين والدنيا، مع الإشادة بالعلم والعلماء، وطلب أخذ الحكمة من أي عقل أو وعاء، لذلك لا يوجد أدنى تعارض بين العلم والدين، فالدين في الإسلام (علم)، لأنه يقوم على النظر والتفكير والاعتماد على البرهان اليقيني والدليل المنطقي، والعلم في الإسلام (دين)، لأن طلبه فريضة على كل مسلم (ذكر أو أنثى)، بل الاشتغال بالعلم الديني (عبادة) والعلم الدنيوي (جهاد).
ثانياً.. (الشاهد التاريخي: التجربتان الحضاريتان الغربية والإسلامية)..
أقوى البراهين على صحة الفكرة، أو سلامة الرأي عندما تستند إلى حقائق الواقع أو تستدعي شواهد التاريخ، ولأن علاقة العلم بالدين لها نصيب كبير في ذاكرة التاريخ، فإن دعاة فصل الدين عن العلم يستشهدون ب(التجربة الحضارية الغربية)، التي تؤكد أن أية حضارة لا قيام لها إلا بالعلم، ولأن الدين يعادي العلم أو على الأقل يصطدم به - حسب رأيهم - فالغرب الحديث لم يبلغ ما بلغ من رقي حضاري وتقدم صناعي وسيادة عالمية إلا حينما رفض (منطق الدين) وآمن ب(منطق العلم). هذا الرأي هو في حقيقته رأي الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (1798 1857م) مؤسس المدرسة الفلسفية الوضعية، الذي قال بنظرية (الأطوار الثلاثة)، التي بدأت ب(الدين) وثنت ب(الفلسفة) وانتهت ب(العلم). ونحن هنا لا ننكر نظرية أوغست من حيث إسقاطها على التجربة الغربية الحضارية كونها مرت بتلك الأطوار، كما لا ننكر أن هذه الحضارة قامت على فصل الدين عن العلم، بل ذهبت لأبعد من ذلك، وهو استبعاد (الدين) تماماً مصدراً من مصادر المعرفة، التي حُصرت في (العلم والعقل والتجربة)، خاصة ً في عصر التنوير الأوربي الذي عرف ب(عصر العقل)، لكن الخلاف هو في آفة (التعميم)، بإسقاط هذا الرأي على التجربة الحضارية الإسلامية من واقع التجربة الحضارية الغربية، لأن التجربتين (متعاكستان) تماماً، في السياق التاريخي والمنطلق الحضاري، وللتوضيح فإن الحضارة الإسلامية انطلقت من الدين (الإسلام)، فالنص الديني هو باعث الحياة فيها ومحرك مناشطها على مدار التاريخ، من خلال قيم قرآنية وتوجيهات نبوية كالتأمل والتفكر والبرهان وغيرها، التي تعامل بها المسلمون كأسس لنهضتهم الفكرية والعلمية حتى سيادة حضارتهم الإسلامية، خاصة ً أنهم واضعو المنهج التجريبي الذي قامت عليه حضارة اليوم، فضلا ً عن اتصالهم بحضارات وثقافات غير مسلمة، والأخذ منها في كل ما يتصل ب(المشترك الإنساني)، وإخضاعه للعقل الإسلامي الذي عمل فيه تطويراً وتحديثاً من خلال مرجعية دينية تقوم على ثنائية الإيمان والعلم، ولكن عندما تخلى المسلمون عن (المنهج) الإسلامي الصحيح القائم على حقيقة أن (الإسلام دين ومنهاج حياة)، فقدوا بوصلة التوجيه الحضاري، فاتجهوا إلى استيراد الأفكار العلمانية والتيارات المادية والفلسفات الإلحادية، حتى غلبت عليهم عصور انحطاطهم، التي انتهت بسقوطهم المريع في مؤخرة المركب الحضاري، تبعية وعالة على أمم الأرض في العلم والإنتاج والاستهلاك. لهذا لن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح حال أولها.
ثالثاً.. (النقاش الفكري: الرد على فكرة علمنة العلم )..
استعرضت في صدر هذا المقال مسوغات القائلين بوجوب فصل الدين عن العلم، التي تركزت في أن الدين ثابت والعلم متغير، وأن الدين لا يقبل الخضوع للعقل مثل العلم، وأن الدين يتعاطى مع مسائل غيبية والعلم لا يعترف إلا بالحسيات، هذه المسوغات تنصب في إطار فكرة واحدة، إذا اقتنع بها القوم تساقط ما بعدها، وهي أن العلم والدين من عند الله، فالدين (وحيّ) والعلم (حق)، ولا يمكن أن يتعارضا فضلاً عن أن ينفصلا، غير أن الدين يعلو كونه (المرجعية العليا)، لذا لا يمكن أن يخضع للعقل، كما أن خضوع العلم للعقل من باب (التجربة) فقط، فهناك مسائل علمية لم يستطع العقل تفسيرها أو فك لغزها، فإن قيل إن العلم متغير خلاف الدين الثابت، فهذا صحيح في جانب محدد، فإن كان الدين ثابت بنصوصه التي لا يأتيها الباطل، فالعلم ثابت في حقائقها الكونية وسننه الربانية، أما قضية (المسائل الغيبية) التي يقرها الدين، ولا يقبلها العلم الذي يقوم على الحواس ومنطق التجربة، فهذه تدخل في إطار (الإيمان)، ولأن العلم تبعاً للدين، فهو يقبل بها من هذا الجانب، على اعتبار أن المصدر للدين والعلم واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وهنا الفارق بين الرؤية الغربية المادية، والرؤية الإسلامية الإيمانية.
غالباً ما يدور سجال فكري متضاد بين مفكرين وكتاب رأي وأكاديميين من مختلف التيارات الفكرية والمدارس الفلسفية حول العلاقة بين الدين والعلم، من حيث (الهيمنة) بسيادة الدين على العلم، أو (العلمنة) بالفصل التام بينهما، أو خضوعهما للعقل على نفس الدرجة، ما يعكس حقيقة الرغبة الجادة لدى الكثير منهم في محاولة صياغة مشروع نهضوي
يكون عامل مساهم في خلاص الأمة من مأزقها الحضاري الراهن، خاصة ً أن هذا السجال الواعي في الفكر، والراقي في الطرح، ينطلق بالدرجة الأولى من تأكيد اعتبار (الدين)، وأهمية (العلم) في مشروع النهضة المنشودة لأية أمة، كونه يرسم أول خطوط تقدمها الصناعي، ويضع أهم قيم رقيها الحضاري، ويشكل كل أنماط مدنيتها في المجالات المختلفة من سياسة واقتصاد وإعلام وغيرها.
إذاً نحن إزاء اتجاهين في تقرير واقع تلك العلاقة، اتجاه (هيمنة الدين)، وآخر (علمنة العلم). القائلون بوجوب فصل العلم عن الدين أي (اتجاه علمنة العلم) ينطلقون من أربع مسوغات رئيسة، الأولى أن الدين ثابت والعلم متغير، سواء ً في السياق التاريخي أو المشروع الحضاري، والثانية أن العلم يخضع للعقل في إطار المعرفة وبحكم التجربة، والدين لا يقبل هذا الخضوع كونه وحياً سماوياً، بينما الثالثة أن الدين يتعاطى مع مسائل غيبية لا مجال لإنكارها أو الخوض فيها، في مقابل العلم الذي لا يعترف إلا بالمسائل الحسية، أما الرابعة فلأن التجربة الغربية الحضارية تبرهن على وجوب هذا الفصل، فالحركة العلمية والنهضة الفكرية لم تتحققا للعالم الغربي وتُعتقاه من الاستبداد الكنسي أو الطغيان الإقطاعي إلا باستبعاد الدين من مصادر المعرفة، وفصله بشكل تام عن العلم.
هنا سأحاول أن أكون واضحاً في مناقشتي لهذه العلاقة الجدلية، معلناً في الوقت نفسه انحيازي الكامل إلى الرأي القائل بوجوب سيادة الدين على العلم (اتجاه هيمنة الدين)، مع الرفض التام لأية دعوة تبرر الفصل بينهما إلا في مسألة الخاصية الطبيعية لهما، أما الفصل بينهما وفق الناحية الوظيفية فهي دعوى خطيرة تهدد أي مشروع حضاري للأمة وتلغي هويتها الدينية، كونها لا تقل خطورة عن دعوى فصل (الدين عن الدنيا)، التي تستبعد المرجعية الإسلامية في كل شؤون الحياة، لذا سيكون تعليقي على هذه القضية الحيوية (علاقة الدين بالعلم)، التي لازالت تشغل العقلية العربية منذ أن وقفت على التجربة الحضارية الغربية ودرست حركتها التاريخية، وعرفت مكامن تفوقها، من خلال ثلاثة محاور رئيسة.. الأول (الموقف الديني) الذي يُجسّد حقيقة موقف الإسلام من العلم، والثاني (الشاهد التاريخي) الذي يشير إلى التجربتين الحضاريتين الغربية والإسلامية على حد ٍسواء، من واقع التبصر في سياق كل تجربة ومنطلقها الأساسي، أما المحور الثالث فهو (النقاش الفكري) لمسوغات الرأي القائل بوجوب علمنة علاقة الدين بالعلم، التي تمت الإشارة لها.
أولا ً.. (الموقف الديني: موقف الإسلام من العلم)..
يتجلى موقف الإسلام الإيجابي من العلم، في رفع (منزلة العلم) وإعلاء (شأن العقل)، هذه المنزلة العظيمة تحققت مع نزول أول كلمات الوحي (اقرأ)، فكان العلم فريضة شرعية وضرورة حياتية، أي القاسم المشترك بين الدين (العبادات)، والدنيا (المعاملات)، حيث دعا القرآن الكريم وحثت السنة النبوية على (العلم)، لأنه مفتاح معرفة دلائل القدرة الإلهية، فكان ظهور الإسلام (نقطة التحول التاريخي الكبير) في العقل البشري الجاهلي من الظلمات إلى النور، من ظلمات الوثنيات والفلسفات الضالة وعلوم الزندقة إلى نور الإسلام والمعارف الإنسانية والعلوم الطبيعية، التي تعمق الناحية الإيمانية وتدفع بالعطاء الإنساني نحو العمران وفق منهج الله، لهذا كانت (اقرأ) أول القيم المعرفية الحضارية على مستوى البشرية، كما أن إعلاء شأن (العقل) توافق مع تحقيق منزلة العلم منذ بزوغ فجر الإسلام، الذي احترم عقل الإنسان، بدعوته إلى النظر والتفكر في (الإنسان ذاته) و(الكون المحيط)، خاصة ً أن هذه الدعوة تعد منهجاً إنسانياً فريداً، مسطوراً بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، حيث قام على تفضيل درجة العلم على العبادة، ورفض كل دعوى بغير برهان يسندها أو يثبتها، ورفض اتباع الظن والهوى للفرد، أو التبعية والتقليد للآخر، كما أكد محاربة الخرافة والزندقة بسحر أو كهانة أو دجل، لأن ذلك أو بعضه يُصادم العلم ويُصادر العقل، أيضاً احتفى بكل علم ٍ نافع ٍ للدين والدنيا، مع الإشادة بالعلم والعلماء، وطلب أخذ الحكمة من أي عقل أو وعاء، لذلك لا يوجد أدنى تعارض بين العلم والدين، فالدين في الإسلام (علم)، لأنه يقوم على النظر والتفكير والاعتماد على البرهان اليقيني والدليل المنطقي، والعلم في الإسلام (دين)، لأن طلبه فريضة على كل مسلم (ذكر أو أنثى)، بل الاشتغال بالعلم الديني (عبادة) والعلم الدنيوي (جهاد).
ثانياً.. (الشاهد التاريخي: التجربتان الحضاريتان الغربية والإسلامية)..
أقوى البراهين على صحة الفكرة، أو سلامة الرأي عندما تستند إلى حقائق الواقع أو تستدعي شواهد التاريخ، ولأن علاقة العلم بالدين لها نصيب كبير في ذاكرة التاريخ، فإن دعاة فصل الدين عن العلم يستشهدون ب(التجربة الحضارية الغربية)، التي تؤكد أن أية حضارة لا قيام لها إلا بالعلم، ولأن الدين يعادي العلم أو على الأقل يصطدم به - حسب رأيهم - فالغرب الحديث لم يبلغ ما بلغ من رقي حضاري وتقدم صناعي وسيادة عالمية إلا حينما رفض (منطق الدين) وآمن ب(منطق العلم). هذا الرأي هو في حقيقته رأي الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (1798 1857م) مؤسس المدرسة الفلسفية الوضعية، الذي قال بنظرية (الأطوار الثلاثة)، التي بدأت ب(الدين) وثنت ب(الفلسفة) وانتهت ب(العلم). ونحن هنا لا ننكر نظرية أوغست من حيث إسقاطها على التجربة الغربية الحضارية كونها مرت بتلك الأطوار، كما لا ننكر أن هذه الحضارة قامت على فصل الدين عن العلم، بل ذهبت لأبعد من ذلك، وهو استبعاد (الدين) تماماً مصدراً من مصادر المعرفة، التي حُصرت في (العلم والعقل والتجربة)، خاصة ً في عصر التنوير الأوربي الذي عرف ب(عصر العقل)، لكن الخلاف هو في آفة (التعميم)، بإسقاط هذا الرأي على التجربة الحضارية الإسلامية من واقع التجربة الحضارية الغربية، لأن التجربتين (متعاكستان) تماماً، في السياق التاريخي والمنطلق الحضاري، وللتوضيح فإن الحضارة الإسلامية انطلقت من الدين (الإسلام)، فالنص الديني هو باعث الحياة فيها ومحرك مناشطها على مدار التاريخ، من خلال قيم قرآنية وتوجيهات نبوية كالتأمل والتفكر والبرهان وغيرها، التي تعامل بها المسلمون كأسس لنهضتهم الفكرية والعلمية حتى سيادة حضارتهم الإسلامية، خاصة ً أنهم واضعو المنهج التجريبي الذي قامت عليه حضارة اليوم، فضلا ً عن اتصالهم بحضارات وثقافات غير مسلمة، والأخذ منها في كل ما يتصل ب(المشترك الإنساني)، وإخضاعه للعقل الإسلامي الذي عمل فيه تطويراً وتحديثاً من خلال مرجعية دينية تقوم على ثنائية الإيمان والعلم، ولكن عندما تخلى المسلمون عن (المنهج) الإسلامي الصحيح القائم على حقيقة أن (الإسلام دين ومنهاج حياة)، فقدوا بوصلة التوجيه الحضاري، فاتجهوا إلى استيراد الأفكار العلمانية والتيارات المادية والفلسفات الإلحادية، حتى غلبت عليهم عصور انحطاطهم، التي انتهت بسقوطهم المريع في مؤخرة المركب الحضاري، تبعية وعالة على أمم الأرض في العلم والإنتاج والاستهلاك. لهذا لن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح حال أولها.
ثالثاً.. (النقاش الفكري: الرد على فكرة علمنة العلم )..
استعرضت في صدر هذا المقال مسوغات القائلين بوجوب فصل الدين عن العلم، التي تركزت في أن الدين ثابت والعلم متغير، وأن الدين لا يقبل الخضوع للعقل مثل العلم، وأن الدين يتعاطى مع مسائل غيبية والعلم لا يعترف إلا بالحسيات، هذه المسوغات تنصب في إطار فكرة واحدة، إذا اقتنع بها القوم تساقط ما بعدها، وهي أن العلم والدين من عند الله، فالدين (وحيّ) والعلم (حق)، ولا يمكن أن يتعارضا فضلاً عن أن ينفصلا، غير أن الدين يعلو كونه (المرجعية العليا)، لذا لا يمكن أن يخضع للعقل، كما أن خضوع العلم للعقل من باب (التجربة) فقط، فهناك مسائل علمية لم يستطع العقل تفسيرها أو فك لغزها، فإن قيل إن العلم متغير خلاف الدين الثابت، فهذا صحيح في جانب محدد، فإن كان الدين ثابت بنصوصه التي لا يأتيها الباطل، فالعلم ثابت في حقائقها الكونية وسننه الربانية، أما قضية (المسائل الغيبية) التي يقرها الدين، ولا يقبلها العلم الذي يقوم على الحواس ومنطق التجربة، فهذه تدخل في إطار (الإيمان)، ولأن العلم تبعاً للدين، فهو يقبل بها من هذا الجانب، على اعتبار أن المصدر للدين والعلم واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وهنا الفارق بين الرؤية الغربية المادية، والرؤية الإسلامية الإيمانية.