ملك القلوب
11-06-2008, 02:01 PM
عبدالله بن محمد السعوي
الأمثلة على التناقض، أنّ الأشاعرة مثلاً في قضية (الترجيح بلا مرجح)، أحياناً يقولون: إنّ القادر المختار يرجح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وأحياناً يقولون بعكس ذلك، وأنّ القادر لا يرجح أحد طرفي الممكن إلاّ بمرجح، والمبعث على هذا التباين اختلاف الحالة
التي يستدلون لها، فإنّهم إن كانوا في موقع مناظرة الفلاسفة الدهرية حول حدوث العالم ردوا عليهم بقولهم (إنّ القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إنّ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار، ولا يصح من العلة الموجبة (انظر (درء التعارض) 9 - 166) وهذا الجواب أيضاً تتوسله المعتزلة في تفنيدهم لآراء الفلاسفة، وإن كانوا في موقع الرد على القدرية المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد وأنّ الله هو الخالق لها ردوا عليهم بقولهم: (إنّه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره إلاّ بمرجح يجب عنده وجود الأثر. فهؤلاء إذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلاّ بجواب المعتزلة وهم دائماً إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر يحتجون عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة، فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة، وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة. وهذا غالب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنّة تجدهم دائماً يتناقضون فيحتجون بالحجة التي يزعمون أنها برهان باهر، ثم في موضع آخر يقولون: إنّ بديهة العقل يعلم بها فساد هذه الحجة (1-326)، رابعاً: الحيرة المتأصلة في أعماقهم، والشك الذي سيطر على منافذ التفكير لديهم، مما ولّد لديهم اضطراباً متأرجحاً لا ينفك عنهم بحال، ويذهب ابن تيمية إلى أنّ (كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها وكمال المعرفة بما فيها وبالأقوال التي تنافيها، فإنّه لا يصل إلى يقين يطمئن إليه، وإنما تفيده الشك والحيرة (انظر (درء تعارض العقل والنقل)1-164) ويقول: (إنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطراباً، وأضعف الناس علماً ويقيناً، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم، خامساً: أرباب الكلام يتوافرون على قاعدة يبنون عليها نسيجهم الرؤيوي، وينطلقون على ضوئها في تصوراتهم الرؤيوية، فحواها: أنّ كل ما لم يدل عليه الدليل يجب نفيه، واستدبار مقتضياته، ورتبوا على هذا نفي كثير من المفردات الغيبية، لأنهم لم يعثروا على دليل لها!!، وليس المحظور جهلهم المطبق بالدليل، وإنما المستنكر هو أنهم جعلوا عدم علمهم بالدليل دليلاً على انتفاء هذا الشيء، انظر كتاب (الرد على المنطقيين) ص100 ومن المعلوم أنّ الدليل يطلب من النافي المنكر كما يطلب من المثبت. انظر (الصفدية) 1-166) وقد دحض ابن تيمية هذه الدعوى، وقرر عدم منطقيتها، عبر قاعدة عامة تفيد بأنّ عدم العلم ليس علماً بالعدم. سادساً: ثمة شبهة متجذرة في وعي أرباب علم الكلام، تناولها ابن تيمية كثيراً فقتلها بحثاً، وأشبعها وأداً، من أظهرها مثلاً: اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان، أو ما ينعت (بالكلي المطلق)، فهؤلاء قد يرسمون في أذهانهم أشياء ويتوهمون وجودها في الخارج، مثل الكليات التي يزعمون أنها تتموضع خارج العقل، وتتعذر الإشارة إليها، وتتعالى على اللمس فهي ليست داخل العالم ولا خارجه، مثل وجود مطلق، أو إنسانية مطلقة، انظر (الجواب الصحيح) 3-78 ومن أعظم المسائل التي خاض فيها الناس، واضطربت فيها أقوالهم، قضية الأسماء والصفات، فقد ناقشها ابن تيمية وقعّد فيها قواعد ينبعث على ضوئها المسلم إبان تعاطيه مع هذه القضية الجليلة، فقد قرر أن الأصل هو أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وقرر أنّ الواجب في حق الله تعالى هو تنزيهه عن صفات النقص مطلقاً مع إثبات كمال الضد، وإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفي النقائص على وجه الإجمال، بعكس ما عليه الطوائف البدعية الذين جاؤوا بنفي مفصل، وأكدوا أن ليس له (حياة ولا علم ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه ولا داخله ولا خارجه، إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم، ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية، وقالوا: لا تقول موجود ولا معدوم (انظر (الصفدية) 1-116-117) ويقرر ابن تيمية أن النفي غير المحض هو الأصل، وهو المنهج القرآني، أما النفي المحض الذي لا يتضمن إثباتاً فلم ينعت الله تعالى به لأنّ (النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأنّ النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأنّ النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولإكمال انظر (التدمرية) ص57 إن ثمة مسائل عديدة، يقول بها أهل الكلام فندها ابن تيمية، وأثبت عدم منطقيتها، من أبرز هذه المسائل، أنّه رد عليهم استدلالهم ب(دليل حدوث الأجسام، والمسمى دليل الأعراض)، وذكر أن هذه الطريقة هي أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وتوسعوا في الكلام في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم (أي أهل الكلام) جعلوا ذلك أصل الدين، حتى قالوا: إنه لا يمكن معرفة الله وتصديق رسوله إلاّ بهذه الطريق.
فصارت هذه الطريق أصل الدين، وقاعدة المعرفة، وأساس الإيمان عندهم، لا يحصل إيمان ولا دين ولا علم بالصانع إلا بها، وصار المحافظة على لوازمها والذي فيها أهم الأمور عندهم ... الوجه الثاني: وهو الكلام بذلك في حق الله سبحانه وتعالى فإنه كان من لوازم هذه الطريقة نفي ما جعلوه من سمات الحدوث عن الرب تعالى، فإن تنزيهه عن الحدوث ودلائله أمر معلوم بالضرورة، متفق عليه بين جميع الخلق لامتناع أن يكون صانع العالم محدثاً، لكن الشأن فيما هو من سمات الحدوث، فإن في كثير من ذلك نزاعاً بين الناس (انظر كتاب (نقض التأسيس)1-122، 123) كما رد ابن تيمية على قول من قال (بفكرة الأحوال)، كما عند أبي (هاشم الجبائي)، وأكد الشيخ على أن الأحوال قائمة في الأذهان، لا متوقعة في الأعيان، فليس في الخارج إلا الصفة والموصوف، وأما النسبة وقدرها فهذا في الذهن؛ كما رد أيضا على الذين يعتقدون بوجود (القطب والاوتاد، والابدال، والغوث)، وتفسيرهم للقرآن على ضوء ذلك، كما هو الشأن عند (القشيري) الذي يفرط في اعتقاده، فيرى أن الصوفية هم أهل الوصال، وغيرهم من الناس هم أهل الاستدلال؛ ورد عليهم ابن تيمية أيضاً قولهم ب(العقول المجرّدة) وأنها تدير العالم، والذي أخذه الرازي من الفلاسفة؛ ورد أيضاً على الأشاعرة، في مبدئهم القائل ب(إنكار السببية) ونفيهم تأثيراً لأسباب، وأن الإحراق لا يكون بالنار وإنما يقع عندها لا بها؛ كما رد على المتكلمين أيضاً قولهم: بأن (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول). وأكد ابن تيمية أن المدلول قد يكون له أدلة أخرى غير هذا الدليل، فإذا بطل الدليل فإنّ هذا لا يعني بطلان المدلول، لأنه قد يوجد دليل آخر؛ كما رد الشيخ أيضا على (دليل الاختصاص) كأحد الأدلة العقلية لهم على نفي العلو، وكثير من الصفات، وأكد ابن تيمية - رحمه الله - على أن الآمدي نفسه الذي أورد هذا الدليل، قد تراجع عنه وضعفه، فقال في كتابه (أبكار الأفكار): (وهذا المسلك ضعيف أيضاً، إذ لقائل أن يقول: المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث، ممنوعة)؛ كما رد - رحمه الله - على شبهة (تقابل العدم والملكة) التي لقيت رواجاً في بعض أوساط المتكلمين، حيث إنّ بعض المتكلمين كالآمدي ذكروا صوابية هذه الشبهة، ورأوا صعوبة بالغة في الجواب عنها، وقد بين ابن تيمية زيف هذه الشبهة وتهافتها من وجوه عديدة منها: أولاً: أنّ ما لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال، ولذلك كان الحجر أنقص من الحي الأعمى.
ثانياً: أن هذا اصطلاح اصطلحتم عليه، وهو باطل من وجهين:
أ- أنّ ما لا حياة فيه يسمى مواتاً وميتاً، وهذا موجود في لغة العرب، وقد ورد في القرآن (أن الله يحيي الأرض بعد موتها).
ب- أنّ الجامدات من الممكن اتصافها بالحياة، فإنّ الله قادر على أن يخلق في الجمادات حياة، كما هو الشأن في عصى موسى حينما استحالت إلى حية تسعى.
ثالثاً: أن يقال لهؤلاء: أنتم فررتم من التشبيه بالمخلوق الناقص فوقعتم في شر منه حيث شبهتموه بالجماد الذي هو أشد نقصاً.
ومن المسائل التي أوسعها ابن تيمية دحضاً، مسألة القول ب(التجسيم)، حيث أكد على أن ثمة سؤالاً مصمتاً ينبغي توجيهه لمن قال به، وهل هو يريد (أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقاً فركب؟ أو أنه يقبل الفريق، سواء قيل: اجتمع بنفسه، أو جمعه غيره؟ أو أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ أو أنه مركب من المادة والصورة؟ أو من الجواهر المنفردة؟ فإن قال هذا. قيل: هذا باطل. وإن قال: أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه ... أو أنه موصوف بالصفات، أو أنه يرى في الآخرة، أو أنه يمكن رؤيته، أو أنه مباين للعالم، فوقه، ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل.
قيل له: هذه معان صحيحة، ولكن إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع، مخالف للغة، فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق، بل يجب أن يكون اللفظ مثبتاً للحق نافياً للباطل (انظر (منهاج السنة) 2-211-214). ومن المسائل الأكثر دوراناً في مؤلفات أهل الكلام، والتي أكد الشيخ وهن مبرراتها، مسألة (تكليف ما لا يطاق)، ومسألة (إنكار التعليل في أفعال الخالق) والقول (بالاستطاعة القدرية الكونية) المقارنة للفعل فقط، أو القول ب(الاستطاعة الشرعية) التي تتقدم على الفعل - فقط، ومن القضايا أيضاً، قضية (هل الصفة هي الموصوف أو غيره) والتي يعبر عنها أحياناً بالقول: هل الصفات هي الذات أو غيرها، وقد أشبعها ابن تيمية معالجة وتناولاً، وأكد على (أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها، بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات، وأما الذات الموصوفة بصفاتها القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات، قادرة على ما تشاؤه من الأفعال، فهي لا تكون إلا موصوفة، لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها، حتى يقال: هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها؟ بل هي داخلة في مسمى اسمها، والأفعال القائمة بها بقدرتها وإرادتها كذلك (انظر (درء التعارض)2-231) أيضاً قضية (التحسين والتقبيح) فعلى رأي المعتزلة أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، أما في المذهب الأشعري فإن التحسين والتقبيح إنما يتلقى من موارد الشرع وموجب السمع، ويعتقدون أن الشرع لو عكس فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً، ففصل ابن تيمية في هذه المسألة، وجلى الرؤية الحقة في ذلك.
انظر (مجموع الفتاوى) 8-434-436 أيضاً رد ابن تيمية على المعتزلة عندما جعلوا (فعل العبد ليس للباري فيه مشيئة ولا خلق)، ورد على مناقضيهم وهم الجبرية الذين قالوا: (ليس للعبد مشيئة في فعله)، وجلى ابن تيمية الشبهة التي بعثت على ذلك، وهي اعتقادهم بتعذر إضافة فعل واحد إلى فاعلين اثنين، فوضح الشيخ أنّ الإضافة هنا مختلفة، فالإضافة إلى الخالق تقديراً وخلقاً، وإلى العبد فعلاً وكسباً.
لقد دحض ابن تيمية مفنداً إثبات المعتزلة للسبب بحسبه مستقلاً عن موجده، وفي المقابل أكد أيضاً إبطال مذهب الجبرية القائم على نفي السبب، باعتبار أن إثباته يلزم منه إثبات خالق آخر!.
لقد كان لابن تيمية صولات وجولات مع إلا شاعرة القائلين ب(الكلام النفسي) وكانت نزالاته حادة مع الجهمية والمعتزلة الذين قالوا بأن الكلام مخلوق بائن من خالقه، وإنما أضيف إليه من باب التشريف؛ ابن تيمية خاض معارك فكرية عاتية مع الكلابية، الذين قالوا ب(الموافاة) ونفوا قيام (الصفات الاختيارية) بالذات الإلهية، زعماً منهم بأن ذلك يستلزم (حلول الحوادث) والذي تحل به الحوادث فهو حادث!، فجلى ابن تيمية وبجهاد معرفي متواصل ارتكاس قولهم، فبدّده من أساسه، وبيّن بطلان مقدماته، وهكذا أمضى ابن تيمية حياته باحثاً عن الحق، ومنصرفاً إلى الحقيقة، يبحث عنها، ويجلي ملامحها، ويشيع محتوياتها، لقد فتح آفاقاً جديدة، ووضع لبنات معرفية أصيلة، دفعت بالفكر والحضارة قدماً إلى الأمام.
الأمثلة على التناقض، أنّ الأشاعرة مثلاً في قضية (الترجيح بلا مرجح)، أحياناً يقولون: إنّ القادر المختار يرجح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وأحياناً يقولون بعكس ذلك، وأنّ القادر لا يرجح أحد طرفي الممكن إلاّ بمرجح، والمبعث على هذا التباين اختلاف الحالة
التي يستدلون لها، فإنّهم إن كانوا في موقع مناظرة الفلاسفة الدهرية حول حدوث العالم ردوا عليهم بقولهم (إنّ القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إنّ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار، ولا يصح من العلة الموجبة (انظر (درء التعارض) 9 - 166) وهذا الجواب أيضاً تتوسله المعتزلة في تفنيدهم لآراء الفلاسفة، وإن كانوا في موقع الرد على القدرية المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد وأنّ الله هو الخالق لها ردوا عليهم بقولهم: (إنّه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره إلاّ بمرجح يجب عنده وجود الأثر. فهؤلاء إذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلاّ بجواب المعتزلة وهم دائماً إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر يحتجون عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة، فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة، وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة. وهذا غالب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنّة تجدهم دائماً يتناقضون فيحتجون بالحجة التي يزعمون أنها برهان باهر، ثم في موضع آخر يقولون: إنّ بديهة العقل يعلم بها فساد هذه الحجة (1-326)، رابعاً: الحيرة المتأصلة في أعماقهم، والشك الذي سيطر على منافذ التفكير لديهم، مما ولّد لديهم اضطراباً متأرجحاً لا ينفك عنهم بحال، ويذهب ابن تيمية إلى أنّ (كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها وكمال المعرفة بما فيها وبالأقوال التي تنافيها، فإنّه لا يصل إلى يقين يطمئن إليه، وإنما تفيده الشك والحيرة (انظر (درء تعارض العقل والنقل)1-164) ويقول: (إنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطراباً، وأضعف الناس علماً ويقيناً، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم، خامساً: أرباب الكلام يتوافرون على قاعدة يبنون عليها نسيجهم الرؤيوي، وينطلقون على ضوئها في تصوراتهم الرؤيوية، فحواها: أنّ كل ما لم يدل عليه الدليل يجب نفيه، واستدبار مقتضياته، ورتبوا على هذا نفي كثير من المفردات الغيبية، لأنهم لم يعثروا على دليل لها!!، وليس المحظور جهلهم المطبق بالدليل، وإنما المستنكر هو أنهم جعلوا عدم علمهم بالدليل دليلاً على انتفاء هذا الشيء، انظر كتاب (الرد على المنطقيين) ص100 ومن المعلوم أنّ الدليل يطلب من النافي المنكر كما يطلب من المثبت. انظر (الصفدية) 1-166) وقد دحض ابن تيمية هذه الدعوى، وقرر عدم منطقيتها، عبر قاعدة عامة تفيد بأنّ عدم العلم ليس علماً بالعدم. سادساً: ثمة شبهة متجذرة في وعي أرباب علم الكلام، تناولها ابن تيمية كثيراً فقتلها بحثاً، وأشبعها وأداً، من أظهرها مثلاً: اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان، أو ما ينعت (بالكلي المطلق)، فهؤلاء قد يرسمون في أذهانهم أشياء ويتوهمون وجودها في الخارج، مثل الكليات التي يزعمون أنها تتموضع خارج العقل، وتتعذر الإشارة إليها، وتتعالى على اللمس فهي ليست داخل العالم ولا خارجه، مثل وجود مطلق، أو إنسانية مطلقة، انظر (الجواب الصحيح) 3-78 ومن أعظم المسائل التي خاض فيها الناس، واضطربت فيها أقوالهم، قضية الأسماء والصفات، فقد ناقشها ابن تيمية وقعّد فيها قواعد ينبعث على ضوئها المسلم إبان تعاطيه مع هذه القضية الجليلة، فقد قرر أن الأصل هو أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وقرر أنّ الواجب في حق الله تعالى هو تنزيهه عن صفات النقص مطلقاً مع إثبات كمال الضد، وإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفي النقائص على وجه الإجمال، بعكس ما عليه الطوائف البدعية الذين جاؤوا بنفي مفصل، وأكدوا أن ليس له (حياة ولا علم ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه ولا داخله ولا خارجه، إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم، ثم قالوا في الإثبات: هو وجود مطلق، أو وجود مقيد بالأمور السلبية، وقالوا: لا تقول موجود ولا معدوم (انظر (الصفدية) 1-116-117) ويقرر ابن تيمية أن النفي غير المحض هو الأصل، وهو المنهج القرآني، أما النفي المحض الذي لا يتضمن إثباتاً فلم ينعت الله تعالى به لأنّ (النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأنّ النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأنّ النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولإكمال انظر (التدمرية) ص57 إن ثمة مسائل عديدة، يقول بها أهل الكلام فندها ابن تيمية، وأثبت عدم منطقيتها، من أبرز هذه المسائل، أنّه رد عليهم استدلالهم ب(دليل حدوث الأجسام، والمسمى دليل الأعراض)، وذكر أن هذه الطريقة هي أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وتوسعوا في الكلام في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم (أي أهل الكلام) جعلوا ذلك أصل الدين، حتى قالوا: إنه لا يمكن معرفة الله وتصديق رسوله إلاّ بهذه الطريق.
فصارت هذه الطريق أصل الدين، وقاعدة المعرفة، وأساس الإيمان عندهم، لا يحصل إيمان ولا دين ولا علم بالصانع إلا بها، وصار المحافظة على لوازمها والذي فيها أهم الأمور عندهم ... الوجه الثاني: وهو الكلام بذلك في حق الله سبحانه وتعالى فإنه كان من لوازم هذه الطريقة نفي ما جعلوه من سمات الحدوث عن الرب تعالى، فإن تنزيهه عن الحدوث ودلائله أمر معلوم بالضرورة، متفق عليه بين جميع الخلق لامتناع أن يكون صانع العالم محدثاً، لكن الشأن فيما هو من سمات الحدوث، فإن في كثير من ذلك نزاعاً بين الناس (انظر كتاب (نقض التأسيس)1-122، 123) كما رد ابن تيمية على قول من قال (بفكرة الأحوال)، كما عند أبي (هاشم الجبائي)، وأكد الشيخ على أن الأحوال قائمة في الأذهان، لا متوقعة في الأعيان، فليس في الخارج إلا الصفة والموصوف، وأما النسبة وقدرها فهذا في الذهن؛ كما رد أيضا على الذين يعتقدون بوجود (القطب والاوتاد، والابدال، والغوث)، وتفسيرهم للقرآن على ضوء ذلك، كما هو الشأن عند (القشيري) الذي يفرط في اعتقاده، فيرى أن الصوفية هم أهل الوصال، وغيرهم من الناس هم أهل الاستدلال؛ ورد عليهم ابن تيمية أيضاً قولهم ب(العقول المجرّدة) وأنها تدير العالم، والذي أخذه الرازي من الفلاسفة؛ ورد أيضاً على الأشاعرة، في مبدئهم القائل ب(إنكار السببية) ونفيهم تأثيراً لأسباب، وأن الإحراق لا يكون بالنار وإنما يقع عندها لا بها؛ كما رد على المتكلمين أيضاً قولهم: بأن (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول). وأكد ابن تيمية أن المدلول قد يكون له أدلة أخرى غير هذا الدليل، فإذا بطل الدليل فإنّ هذا لا يعني بطلان المدلول، لأنه قد يوجد دليل آخر؛ كما رد الشيخ أيضا على (دليل الاختصاص) كأحد الأدلة العقلية لهم على نفي العلو، وكثير من الصفات، وأكد ابن تيمية - رحمه الله - على أن الآمدي نفسه الذي أورد هذا الدليل، قد تراجع عنه وضعفه، فقال في كتابه (أبكار الأفكار): (وهذا المسلك ضعيف أيضاً، إذ لقائل أن يقول: المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث، ممنوعة)؛ كما رد - رحمه الله - على شبهة (تقابل العدم والملكة) التي لقيت رواجاً في بعض أوساط المتكلمين، حيث إنّ بعض المتكلمين كالآمدي ذكروا صوابية هذه الشبهة، ورأوا صعوبة بالغة في الجواب عنها، وقد بين ابن تيمية زيف هذه الشبهة وتهافتها من وجوه عديدة منها: أولاً: أنّ ما لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال، ولذلك كان الحجر أنقص من الحي الأعمى.
ثانياً: أن هذا اصطلاح اصطلحتم عليه، وهو باطل من وجهين:
أ- أنّ ما لا حياة فيه يسمى مواتاً وميتاً، وهذا موجود في لغة العرب، وقد ورد في القرآن (أن الله يحيي الأرض بعد موتها).
ب- أنّ الجامدات من الممكن اتصافها بالحياة، فإنّ الله قادر على أن يخلق في الجمادات حياة، كما هو الشأن في عصى موسى حينما استحالت إلى حية تسعى.
ثالثاً: أن يقال لهؤلاء: أنتم فررتم من التشبيه بالمخلوق الناقص فوقعتم في شر منه حيث شبهتموه بالجماد الذي هو أشد نقصاً.
ومن المسائل التي أوسعها ابن تيمية دحضاً، مسألة القول ب(التجسيم)، حيث أكد على أن ثمة سؤالاً مصمتاً ينبغي توجيهه لمن قال به، وهل هو يريد (أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقاً فركب؟ أو أنه يقبل الفريق، سواء قيل: اجتمع بنفسه، أو جمعه غيره؟ أو أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ أو أنه مركب من المادة والصورة؟ أو من الجواهر المنفردة؟ فإن قال هذا. قيل: هذا باطل. وإن قال: أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه ... أو أنه موصوف بالصفات، أو أنه يرى في الآخرة، أو أنه يمكن رؤيته، أو أنه مباين للعالم، فوقه، ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل.
قيل له: هذه معان صحيحة، ولكن إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع، مخالف للغة، فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق، بل يجب أن يكون اللفظ مثبتاً للحق نافياً للباطل (انظر (منهاج السنة) 2-211-214). ومن المسائل الأكثر دوراناً في مؤلفات أهل الكلام، والتي أكد الشيخ وهن مبرراتها، مسألة (تكليف ما لا يطاق)، ومسألة (إنكار التعليل في أفعال الخالق) والقول (بالاستطاعة القدرية الكونية) المقارنة للفعل فقط، أو القول ب(الاستطاعة الشرعية) التي تتقدم على الفعل - فقط، ومن القضايا أيضاً، قضية (هل الصفة هي الموصوف أو غيره) والتي يعبر عنها أحياناً بالقول: هل الصفات هي الذات أو غيرها، وقد أشبعها ابن تيمية معالجة وتناولاً، وأكد على (أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها، بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات، وأما الذات الموصوفة بصفاتها القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات، قادرة على ما تشاؤه من الأفعال، فهي لا تكون إلا موصوفة، لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها، حتى يقال: هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها؟ بل هي داخلة في مسمى اسمها، والأفعال القائمة بها بقدرتها وإرادتها كذلك (انظر (درء التعارض)2-231) أيضاً قضية (التحسين والتقبيح) فعلى رأي المعتزلة أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، أما في المذهب الأشعري فإن التحسين والتقبيح إنما يتلقى من موارد الشرع وموجب السمع، ويعتقدون أن الشرع لو عكس فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعاً، ففصل ابن تيمية في هذه المسألة، وجلى الرؤية الحقة في ذلك.
انظر (مجموع الفتاوى) 8-434-436 أيضاً رد ابن تيمية على المعتزلة عندما جعلوا (فعل العبد ليس للباري فيه مشيئة ولا خلق)، ورد على مناقضيهم وهم الجبرية الذين قالوا: (ليس للعبد مشيئة في فعله)، وجلى ابن تيمية الشبهة التي بعثت على ذلك، وهي اعتقادهم بتعذر إضافة فعل واحد إلى فاعلين اثنين، فوضح الشيخ أنّ الإضافة هنا مختلفة، فالإضافة إلى الخالق تقديراً وخلقاً، وإلى العبد فعلاً وكسباً.
لقد دحض ابن تيمية مفنداً إثبات المعتزلة للسبب بحسبه مستقلاً عن موجده، وفي المقابل أكد أيضاً إبطال مذهب الجبرية القائم على نفي السبب، باعتبار أن إثباته يلزم منه إثبات خالق آخر!.
لقد كان لابن تيمية صولات وجولات مع إلا شاعرة القائلين ب(الكلام النفسي) وكانت نزالاته حادة مع الجهمية والمعتزلة الذين قالوا بأن الكلام مخلوق بائن من خالقه، وإنما أضيف إليه من باب التشريف؛ ابن تيمية خاض معارك فكرية عاتية مع الكلابية، الذين قالوا ب(الموافاة) ونفوا قيام (الصفات الاختيارية) بالذات الإلهية، زعماً منهم بأن ذلك يستلزم (حلول الحوادث) والذي تحل به الحوادث فهو حادث!، فجلى ابن تيمية وبجهاد معرفي متواصل ارتكاس قولهم، فبدّده من أساسه، وبيّن بطلان مقدماته، وهكذا أمضى ابن تيمية حياته باحثاً عن الحق، ومنصرفاً إلى الحقيقة، يبحث عنها، ويجلي ملامحها، ويشيع محتوياتها، لقد فتح آفاقاً جديدة، ووضع لبنات معرفية أصيلة، دفعت بالفكر والحضارة قدماً إلى الأمام.