نخله
03-02-2008, 02:00 AM
أوّلا تَعريفُ اللحية:
اللحية هِيَ الشعر النابِتُ على الذقَنِ والعارِضَينِ من وجه الرجل.
وليسَ منها ما يَتبُتُ شاذا على غير العارِضَينِ من الخدين، ولا شعر العَتفَقَةِ، ولا ما ينبُتُ أسفَلَ الذقن على الرقَبَة، فليسَ ذلكَ لحيَةً.
ثانياً: خلاصَةُ الدراسَةِ الحديثيةِ:
ا- ما ثَبَتَ بهِ النقلُ في صِفَةِ النبيٌ "ص"، أنه كانَ لهُ لحية، مَوصوفَة بكونِها: حَسَنَة، كَثة، ضَخمَة، كَثيرَةَ الشعر: تَملا من الصدْغِ إلى الصدغ حتَى تَكادُ تملا نَحرَهُ، وَكانَ يأخُذُ بها إذا اهتَم، وُيخلًلُها بالماء إذا تَوضا، وَيعرِفُ مَن خَلفَهُ في الصلاةِ السريَّة أنه يَقرا فيها بِما يَرَونَهُ من حَرَكَةِ لحيتِه "ص".
2- الأحاديثُ القوليَّةُ الآمِرَةُ بإعفاءِ اللحية ثَبَتَتِ الرٌوايَةُ بِها عَن ثَلاثَةِ من الصحابَةِ، في ثَلاثَةِ أحاديثَ: عَن عبد الله بنِ عُمَرَ، وأبي هريرة، وأبي أمامَةَ الباهلي.
وهذهِ الأحاديثُ الثلاثَةُ جَميعا جاءَت بالأمرِ بإعفاءِ اللحية وقَص الشَاربِ، مُعللة الأمرَ بمُخالَفَةِ من يفعَلُ عَكسَ ذلكَ بهما من غيرِ المسلمينَ.
3- مارُوِيَ في عَد اعفاءِ اللحية مِن سُنَنِ الفِطرَةِ لا يَثْبُتُ منه شيءٌ من جِهَةِ الروايَة.
4- الأحاديثُ المرويةُ عَنِ النبي "ص" في الأخذِ مِنَ اللحية، لم يَثبُت منها شَيئ.
5- الآثارُ المرويةِ عَنِ الصحابَةِ في شأنِ اللحية جاءَت عن نَفَرِ كَثيرِ منهُم بإعفائها صَراحَة.
6- الأخْذُ منها وتَهذيبُها وتَحسينُ هيئَتِها ثَبتَ عَنِ الصحابَةِ العَمَلُ بهِ، وذلكَ في دلالَةِ النقولِ الثابِتَةِ عن جُمهورِهم، وكَذا عَنِ التَابعينَ، وعليهِ مَذاهِبُ الفِقْهِ المتْبوعَةُ، دونَ نَكيرٍ من أحَدٍ البتَةَ، فذلكَ جارِ على طَريقَةِ مَن يحتج بالإجماعِ السُّكوتي.
ولم أجِدْ مَن ذَكَرَ مَتعَ مَسًها وتَهذيبِها في رأي مَن سَلَفَ، سِوى شَيء شاذ مُحدَثِ في زَمانِنا.
7- وَمِنَ السلَفِ مَن كانَ يأخُذُ منها بحَد، كأخْذِ ما فَضَلَ عن قَبضةِ الكَف، وتَوقيتِ كالحج والعُمرَةِ، ومنهم مَن كانَ يأخُذُ منها دونَ اعتِبارِ حَد وَلا تَوقيت، حيثُ جاءَ النقْل عنهم بالإطلاق، ومنهم مَن ثَبَتَ عنهُ اْيْضا شَرعيةُ الأخذِ من العارِضَين.
8- كَما دَل الاستِقراءُ للنقلِ أن إعفاءَ اللحية مِما جرى في عرف الناسِ قَبلَ الإسلامِ، ولم تُلغه شَريعَةُ الإسلامِ، وإنما ابقته على ما جَرَى بهِ العُرفُ.
9- وَدَل الاستِقراءُ أيضا على أن حلقَ اللحية اختِيارا من صاحِبِها لم يُذْكَر عن صَحابيً ولا تابعي، ولا يُعرَفُ في المجتَمَعِ الإسلامي في صَدرِ الإسلام.
10- مَذاهبُ الفِقهِ المتبوعَةُ عتدَ أهل السنةِ في شأنِ إعفاءِ اللحية لم يأتِ في شَيءٍ منها إباحَةُ حَلْقِ اللحية، وإنما فيهِ عِتدَ أكثَرِهم وَجهانِ: أولهما: كَراهَةُ حَلقِها، وُيقابِلُهُ: نَدْبُ إعفائها، وهذا أحَد الوجهينِ للمالكية والشافعية والحَنابِلَةِ.
وثانيهما: تَحريمُ حَلقِها، ويُقابُلُه: وُجوبُ إعفانها، وهُوَ مَذهَبُ الحنفية، والوجه الاَخَرُ للمذاهِبِ الثلاثَةِ السابِقَةِ.
ثالثاً: خلاصَةُ الدِّراسَةِ الفقهيةِ:
ا- دلً اتخاذُ النبي "ص" للحية الحَسَنَةِ على مَشروعيتِها لاباحَتِها، وَيكونُ فَضيلَة إذا اقتَرَنَ بقَصدِ المشابَهَةِ للنبي "ص".
2- دَلالَةُ النُّصوصِ الآمِرَةِ بإعفاءِ اللحية لا تتجاوَزُ الاستِحبابَ عنْدَ ؤجودِ مُقتَضي المخالَفَةِ لغيرِ المسلمينَ؟ من أجلِ أن تلكَ المُخالفَةَ فيما يَرجِع للمظاهِرِ والهَيئاتِ، ومنها اللحية، لم تُساعِدِ النصوصُ في حُكْمِها في الدلالَةِ على أكثَرَ من الندْبِ، وإنما يُسْتَثنى حالُ مَن يَقصِدُ مُشابَهَةِ غيرِ المسلمينَ في هيئَتهم الظاهِرَةِ بحلقِ اللحية، دونَ مُقتَضى لتلكَ المشابَهَةِ، فذلكَ قَصْدْ مُحرَّمٌ .
3- العُرْفُ مؤثرْ في بابِ العاداتِ، والسُّنةُ في العُرفِ مُجاراتُهُ إلَا في مُخالفَةِ الشرعِ، وحَيثُ قُلنا باستِحباب إعفاءِ اللحية بعلَّتِهِ، فلا يوصَفُ تَركُ المندوبِ بكونهِ مُخالفةَ للشَرْعِ.
وعليهِ، فلو شاعَ عُرفُ المسلمينَ في مَكانٍ بحَلْقِ الرجالِ لِحاهُم، وأصبَحَ إعفاءُ اللحية شُذوذا وشُهرَة، فمُوافَقَةُ العُرْفِ أوفَقُ للسنةِ، إذ لا يُحقَقُ إعفاءُ اللحية حينئذ مَصلحة مَقصودَةَ للشرعِ، وهُوَ إعفاؤُها إظهارا لتميُّزِ للمسلِمِ، وحيثُ إن الحُكمَ المعللَ بعلة يَدورُ مَعَ علَتِهِ وجودا وعَدما، وانتَفَت العلةُ هُنا إذ انتَفَت مصلحَةُ التميزِ، فتَسقُطُ بذلكَ فائِدَةُ الامتِثالِ للأحاديثِ الثلاثَةِ الآمِرَةِ بإعفاءِ اللحية.
4- القُدرَةُ والتمكُنُ والأمنُ على النفسِ أشياء مُعتَبَرة لامتِثالِ إبرازِ المخالَفَةِ لغيرِ المسلمِ في الهيئَةِ الطاهِرَةِ، وَقَد يَقتَضي حالُ المسلمِ في مَكانٍ أو زَمانِ أن يُظهِرَ مُوافَقَةَ غيرِ المسلمينَ من أهل بيئَتِهِ في العلامَةِ الظاهِرَة، فيسقُطُ في حقهِ مَشروعيةُ المخالَفَةِ في ذلكَ، بل لا يكونُ مَذموما حتى مَعَ قَصدِ المشابَهَةِ لهم إذا كانَ يَفْعَلُ ذلكَ لمصلَحَةِ راجِحَةِ له في دينِهِ، إذ الأمرُ الشرعي بذلكَ وَردَ في ظَرْفِ التمكُنِ.
5- لو شاعَ إعفاءُ اللحية من مُسلم وَغيرِهِ في مُجتَمَعٍ ، لم يؤمر المسلمُ بالحلقِ مُخالَفَة لغيرِه، وإنما يُطلَبُ التميزُ بشَرطِهِ (وهُوَ التمكن) بغيرِ ذلكَ من الهَيئاتِ، وَلا يَكونُ إعفاءُ اللحية حينئذِ من تلكَ العلاماتِ الفارِقَةِ المطلوبَةِ، وذلكَ مِن أجلِ أن الحُسنَ في اتًخاذِها ذاتي، لِذا اتخَذها النبي "ص" في الوَقْتِ الذي كانَ اتخاذُها فيهِ من عادَةِ المشْرِكينَ من أهل بيئَتِهِ.
6- الاستِدلالُ بما هُو خارج عن النصوصِ المباشِرَةِ في إعفاءِ اللحية لتَثبيتِ فَرضِ إعفائها، كادعاءِ أن حَلقَها خُروجْ عَنِ الفِطرَةِ، وأنه مُشابَهَة للنساءِ، وأنه مُثلَة، وَمُحدَثْ، وتَغيير لخلقِ اللهَ، فكلْهُ مِما بينت ضَعفه وخطأهُ.
7- اتخاذُ اللحية مِن اتخاذِ الشعر، والسنةُ لمن كانَ لهُ شعر أن يُكرِمَهُ وُيحسِنَ هَيئَتَهُ ومَنظَرَهُ، بقَص مُناسبِ، وتَرتيب وتَرجيلِ ودَهْنِ وإصلاحِ وصَنع وغَيرِ ذلكَ مِما يُوافِقُ الهَيئَةَ الحسَنَةَ، وبذلكَ جاءَت الآثارُ ومَذاهِب أهل العلمِ، كَما كانَ مَتظَرُ لحية النبيٌ "ص" حَسَناً.
أما إهمالُها وتَركُها مُبَعثَرَة ثائِرَة فذلكَ قَبيح في المنظَرِ لا يَتناسَبُ مَعَ مَقاصِدِ الشرعِ وَغاياتِهِ، وَيقبُحُ أكثَرُ إذا كانَ صاحِبُهُ يُظهِرُ ذلكَ على أنه السنةُ، فهُو يُسيء بذلكَ إلى النبي "ص" الموصوفِ بحُسنِ لحيتِهِ وَجمالِ مَنظَرَهِ وهَيئَتِهِ.
أما مَن رأى قُدسيةَ شعر لحيتِهِ، فيَستعظِمُ أخذَ شعرةٍ متها تَحسينا لهيئَتِها، فهذا على غيرِ هَديِ النبي "ص"، حيثُ لم نَرَ لهذا الصنيعِ أصلَا في سُنةٍ ولا أثَرٍ ، بل وَنجدنا بعض غيرِ المسلمينَ يُعظمونَ مَس شَيءٍ من شعر اللحية دِيانَة.
وَأختِمُ هذا بالقول:
مَعَ ما بينْتُ فيم سبق، وصِرتُ إليهِ مِنَ النتائجِ، فأنا أرى- كغَيري- اللحية اليَومَ تَشيعُ في كَثيير مِنَ المتدينينَ على أنها- فيما يَرَونَ - سُنةْ، أو واجِب، أحتَرِمُ لَهُم ذلكَ، فذَلكَ منهُم فَهمٌ مَرجعهُ إلى الاجتِهادِ، وليسَ مِن حَرَج على من يَقعَلُ ذلكَ قاصِدا الخيرَ، كما لا حَرَجَ على مَن أذرَكَ ما تقدًمَ أو بعضهُ اْو قلدَ مُفتيا من عُلماءِ المسلمينَ فحَلَقَ لحيتَه معَ الدينِ والأدَبِ وحُسنِ الخُلُقِ.
وإنما الحَرَجُ على طائفَة مِنَ المسلمينَ عَظمَت هذهِ المسألَةَ وبالَغَت فيها مِمن يَرى حُرمَةَ حَلقِ اللحية، حتى أعطَوها مِنَ القُدسيةِ أن جَعَلُوا حالِقَها مُرتكبا لكَبيرَةِ، بل تَناوَلَ بَعْضُهم بهذا الوَصْفِ مَن يَعتَني بهَيئَتِها بالأخْذِ متها وتَرتيبِها.
والقول لهذهِ الطائفَة: ائتونا ببُرهانِ غيرِ ما فصلتُ في هذا البحثِ يُبلغُ هذهِ المسألَةَ ما بلغتُموها، ولا أراكُم إلا عاجِزينَ عن ذلكَ، وسَتَرجعونَ إلى نَفسِ ما بينت مُستقصِيا هُنا، وعندَئذِ أقولُ: قَد أوجَدَني النظَرُ في هذا البَيانِ غيرَ ما أوجَدَكُم، ولم تَفصِل النصوصُ في خلافِنا، فبالله عليكُم ما كانَ هذا بابُهُ من مَسائلِ الشرعِ كَيفَ يَستقيمُ وَصفُ المخالفِ فيهِ بارتِكابِ كَبيرَة!
كَذلكَ أقولُ: اتقوا اللهَ ، وكُفوا عن عَد اللحية مِيزانا تَحسُبونَ بهِ مَقاديرَ التقوى عتدَ غَيرِكُم، فكَم مِن ذي عَقْلٍ ورأيٍ ودين وَفَضلٍ لا لِحيَةَ لَهُ؟ وكَم فيمَن تَمس لحيتُهُ سُرتَهُ ألصَقُ حالًا بعبد الله بنِ أبيٌ بن سَلول؟ واللّهُ المستَعانُ!
وَما أحْسَنَ قول أبي عُمَرَ ابنِ عَبد ِالبَر الأتدَلُسي: "الشَعرُ والحَلْقُ لا يُغْنِيانِ يوم القِيامَةِ شَيئا، وإنما المُجازاةُ على النياتِ وَالأعمالِ، فرُبَّ مَحلوقِ خَيرْ من ذِي شَعْرِ، ورُب ذِي شَعْر رَجُلا صالحاَ".
وَقالَ سُفيانُ بنُ حُسَيْنٍ الواسِطيُ، وَكانَ مُؤدٌباً: أتَدري ما السمتُ الصَالحُ؟ ليسَ هُوَ بحَلقِ الشاربِ، وَلا تَشميرِ الثوبِ، وإنما هُوَ لُزومُ طَريقِ القَومِ، إذا فَعَلَ ذلكَ قيلَ: قَدْ أصابَ السمتَ.
وتَدري ما الاقتِصادُ؟ هُوَ المشْيُ الذي ليسَ فيهِ غُلو وَلا تَقصير.
نَسْألُ اللهَ أن يهْدِيَنا سَواءَ السبيلِ، وأن يَعمُرَ قُلوبنا بالعلم المورِثِ لخَشيَتِهِ، ويُعيذَنا مِن الرياءِ والنفاقِ والخُروجِ عَنِ الصراطِ المستَقيمِ، وأستَعفرُهُ من ظلْمِ نَفْسي وتَفريطي في جَتبِهِ، إنه هُوَ الغفور الرحيم.
سُبحانَكَ اللهُم وبَحَمدِكَ، لا إلَهَ إلا أتتَ، استغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
وَالحَمدُ للهِ رَبٌ العالَمينَ.
اللحية هِيَ الشعر النابِتُ على الذقَنِ والعارِضَينِ من وجه الرجل.
وليسَ منها ما يَتبُتُ شاذا على غير العارِضَينِ من الخدين، ولا شعر العَتفَقَةِ، ولا ما ينبُتُ أسفَلَ الذقن على الرقَبَة، فليسَ ذلكَ لحيَةً.
ثانياً: خلاصَةُ الدراسَةِ الحديثيةِ:
ا- ما ثَبَتَ بهِ النقلُ في صِفَةِ النبيٌ "ص"، أنه كانَ لهُ لحية، مَوصوفَة بكونِها: حَسَنَة، كَثة، ضَخمَة، كَثيرَةَ الشعر: تَملا من الصدْغِ إلى الصدغ حتَى تَكادُ تملا نَحرَهُ، وَكانَ يأخُذُ بها إذا اهتَم، وُيخلًلُها بالماء إذا تَوضا، وَيعرِفُ مَن خَلفَهُ في الصلاةِ السريَّة أنه يَقرا فيها بِما يَرَونَهُ من حَرَكَةِ لحيتِه "ص".
2- الأحاديثُ القوليَّةُ الآمِرَةُ بإعفاءِ اللحية ثَبَتَتِ الرٌوايَةُ بِها عَن ثَلاثَةِ من الصحابَةِ، في ثَلاثَةِ أحاديثَ: عَن عبد الله بنِ عُمَرَ، وأبي هريرة، وأبي أمامَةَ الباهلي.
وهذهِ الأحاديثُ الثلاثَةُ جَميعا جاءَت بالأمرِ بإعفاءِ اللحية وقَص الشَاربِ، مُعللة الأمرَ بمُخالَفَةِ من يفعَلُ عَكسَ ذلكَ بهما من غيرِ المسلمينَ.
3- مارُوِيَ في عَد اعفاءِ اللحية مِن سُنَنِ الفِطرَةِ لا يَثْبُتُ منه شيءٌ من جِهَةِ الروايَة.
4- الأحاديثُ المرويةُ عَنِ النبي "ص" في الأخذِ مِنَ اللحية، لم يَثبُت منها شَيئ.
5- الآثارُ المرويةِ عَنِ الصحابَةِ في شأنِ اللحية جاءَت عن نَفَرِ كَثيرِ منهُم بإعفائها صَراحَة.
6- الأخْذُ منها وتَهذيبُها وتَحسينُ هيئَتِها ثَبتَ عَنِ الصحابَةِ العَمَلُ بهِ، وذلكَ في دلالَةِ النقولِ الثابِتَةِ عن جُمهورِهم، وكَذا عَنِ التَابعينَ، وعليهِ مَذاهِبُ الفِقْهِ المتْبوعَةُ، دونَ نَكيرٍ من أحَدٍ البتَةَ، فذلكَ جارِ على طَريقَةِ مَن يحتج بالإجماعِ السُّكوتي.
ولم أجِدْ مَن ذَكَرَ مَتعَ مَسًها وتَهذيبِها في رأي مَن سَلَفَ، سِوى شَيء شاذ مُحدَثِ في زَمانِنا.
7- وَمِنَ السلَفِ مَن كانَ يأخُذُ منها بحَد، كأخْذِ ما فَضَلَ عن قَبضةِ الكَف، وتَوقيتِ كالحج والعُمرَةِ، ومنهم مَن كانَ يأخُذُ منها دونَ اعتِبارِ حَد وَلا تَوقيت، حيثُ جاءَ النقْل عنهم بالإطلاق، ومنهم مَن ثَبَتَ عنهُ اْيْضا شَرعيةُ الأخذِ من العارِضَين.
8- كَما دَل الاستِقراءُ للنقلِ أن إعفاءَ اللحية مِما جرى في عرف الناسِ قَبلَ الإسلامِ، ولم تُلغه شَريعَةُ الإسلامِ، وإنما ابقته على ما جَرَى بهِ العُرفُ.
9- وَدَل الاستِقراءُ أيضا على أن حلقَ اللحية اختِيارا من صاحِبِها لم يُذْكَر عن صَحابيً ولا تابعي، ولا يُعرَفُ في المجتَمَعِ الإسلامي في صَدرِ الإسلام.
10- مَذاهبُ الفِقهِ المتبوعَةُ عتدَ أهل السنةِ في شأنِ إعفاءِ اللحية لم يأتِ في شَيءٍ منها إباحَةُ حَلْقِ اللحية، وإنما فيهِ عِتدَ أكثَرِهم وَجهانِ: أولهما: كَراهَةُ حَلقِها، وُيقابِلُهُ: نَدْبُ إعفائها، وهذا أحَد الوجهينِ للمالكية والشافعية والحَنابِلَةِ.
وثانيهما: تَحريمُ حَلقِها، ويُقابُلُه: وُجوبُ إعفانها، وهُوَ مَذهَبُ الحنفية، والوجه الاَخَرُ للمذاهِبِ الثلاثَةِ السابِقَةِ.
ثالثاً: خلاصَةُ الدِّراسَةِ الفقهيةِ:
ا- دلً اتخاذُ النبي "ص" للحية الحَسَنَةِ على مَشروعيتِها لاباحَتِها، وَيكونُ فَضيلَة إذا اقتَرَنَ بقَصدِ المشابَهَةِ للنبي "ص".
2- دَلالَةُ النُّصوصِ الآمِرَةِ بإعفاءِ اللحية لا تتجاوَزُ الاستِحبابَ عنْدَ ؤجودِ مُقتَضي المخالَفَةِ لغيرِ المسلمينَ؟ من أجلِ أن تلكَ المُخالفَةَ فيما يَرجِع للمظاهِرِ والهَيئاتِ، ومنها اللحية، لم تُساعِدِ النصوصُ في حُكْمِها في الدلالَةِ على أكثَرَ من الندْبِ، وإنما يُسْتَثنى حالُ مَن يَقصِدُ مُشابَهَةِ غيرِ المسلمينَ في هيئَتهم الظاهِرَةِ بحلقِ اللحية، دونَ مُقتَضى لتلكَ المشابَهَةِ، فذلكَ قَصْدْ مُحرَّمٌ .
3- العُرْفُ مؤثرْ في بابِ العاداتِ، والسُّنةُ في العُرفِ مُجاراتُهُ إلَا في مُخالفَةِ الشرعِ، وحَيثُ قُلنا باستِحباب إعفاءِ اللحية بعلَّتِهِ، فلا يوصَفُ تَركُ المندوبِ بكونهِ مُخالفةَ للشَرْعِ.
وعليهِ، فلو شاعَ عُرفُ المسلمينَ في مَكانٍ بحَلْقِ الرجالِ لِحاهُم، وأصبَحَ إعفاءُ اللحية شُذوذا وشُهرَة، فمُوافَقَةُ العُرْفِ أوفَقُ للسنةِ، إذ لا يُحقَقُ إعفاءُ اللحية حينئذ مَصلحة مَقصودَةَ للشرعِ، وهُوَ إعفاؤُها إظهارا لتميُّزِ للمسلِمِ، وحيثُ إن الحُكمَ المعللَ بعلة يَدورُ مَعَ علَتِهِ وجودا وعَدما، وانتَفَت العلةُ هُنا إذ انتَفَت مصلحَةُ التميزِ، فتَسقُطُ بذلكَ فائِدَةُ الامتِثالِ للأحاديثِ الثلاثَةِ الآمِرَةِ بإعفاءِ اللحية.
4- القُدرَةُ والتمكُنُ والأمنُ على النفسِ أشياء مُعتَبَرة لامتِثالِ إبرازِ المخالَفَةِ لغيرِ المسلمِ في الهيئَةِ الطاهِرَةِ، وَقَد يَقتَضي حالُ المسلمِ في مَكانٍ أو زَمانِ أن يُظهِرَ مُوافَقَةَ غيرِ المسلمينَ من أهل بيئَتِهِ في العلامَةِ الظاهِرَة، فيسقُطُ في حقهِ مَشروعيةُ المخالَفَةِ في ذلكَ، بل لا يكونُ مَذموما حتى مَعَ قَصدِ المشابَهَةِ لهم إذا كانَ يَفْعَلُ ذلكَ لمصلَحَةِ راجِحَةِ له في دينِهِ، إذ الأمرُ الشرعي بذلكَ وَردَ في ظَرْفِ التمكُنِ.
5- لو شاعَ إعفاءُ اللحية من مُسلم وَغيرِهِ في مُجتَمَعٍ ، لم يؤمر المسلمُ بالحلقِ مُخالَفَة لغيرِه، وإنما يُطلَبُ التميزُ بشَرطِهِ (وهُوَ التمكن) بغيرِ ذلكَ من الهَيئاتِ، وَلا يَكونُ إعفاءُ اللحية حينئذِ من تلكَ العلاماتِ الفارِقَةِ المطلوبَةِ، وذلكَ مِن أجلِ أن الحُسنَ في اتًخاذِها ذاتي، لِذا اتخَذها النبي "ص" في الوَقْتِ الذي كانَ اتخاذُها فيهِ من عادَةِ المشْرِكينَ من أهل بيئَتِهِ.
6- الاستِدلالُ بما هُو خارج عن النصوصِ المباشِرَةِ في إعفاءِ اللحية لتَثبيتِ فَرضِ إعفائها، كادعاءِ أن حَلقَها خُروجْ عَنِ الفِطرَةِ، وأنه مُشابَهَة للنساءِ، وأنه مُثلَة، وَمُحدَثْ، وتَغيير لخلقِ اللهَ، فكلْهُ مِما بينت ضَعفه وخطأهُ.
7- اتخاذُ اللحية مِن اتخاذِ الشعر، والسنةُ لمن كانَ لهُ شعر أن يُكرِمَهُ وُيحسِنَ هَيئَتَهُ ومَنظَرَهُ، بقَص مُناسبِ، وتَرتيب وتَرجيلِ ودَهْنِ وإصلاحِ وصَنع وغَيرِ ذلكَ مِما يُوافِقُ الهَيئَةَ الحسَنَةَ، وبذلكَ جاءَت الآثارُ ومَذاهِب أهل العلمِ، كَما كانَ مَتظَرُ لحية النبيٌ "ص" حَسَناً.
أما إهمالُها وتَركُها مُبَعثَرَة ثائِرَة فذلكَ قَبيح في المنظَرِ لا يَتناسَبُ مَعَ مَقاصِدِ الشرعِ وَغاياتِهِ، وَيقبُحُ أكثَرُ إذا كانَ صاحِبُهُ يُظهِرُ ذلكَ على أنه السنةُ، فهُو يُسيء بذلكَ إلى النبي "ص" الموصوفِ بحُسنِ لحيتِهِ وَجمالِ مَنظَرَهِ وهَيئَتِهِ.
أما مَن رأى قُدسيةَ شعر لحيتِهِ، فيَستعظِمُ أخذَ شعرةٍ متها تَحسينا لهيئَتِها، فهذا على غيرِ هَديِ النبي "ص"، حيثُ لم نَرَ لهذا الصنيعِ أصلَا في سُنةٍ ولا أثَرٍ ، بل وَنجدنا بعض غيرِ المسلمينَ يُعظمونَ مَس شَيءٍ من شعر اللحية دِيانَة.
وَأختِمُ هذا بالقول:
مَعَ ما بينْتُ فيم سبق، وصِرتُ إليهِ مِنَ النتائجِ، فأنا أرى- كغَيري- اللحية اليَومَ تَشيعُ في كَثيير مِنَ المتدينينَ على أنها- فيما يَرَونَ - سُنةْ، أو واجِب، أحتَرِمُ لَهُم ذلكَ، فذَلكَ منهُم فَهمٌ مَرجعهُ إلى الاجتِهادِ، وليسَ مِن حَرَج على من يَقعَلُ ذلكَ قاصِدا الخيرَ، كما لا حَرَجَ على مَن أذرَكَ ما تقدًمَ أو بعضهُ اْو قلدَ مُفتيا من عُلماءِ المسلمينَ فحَلَقَ لحيتَه معَ الدينِ والأدَبِ وحُسنِ الخُلُقِ.
وإنما الحَرَجُ على طائفَة مِنَ المسلمينَ عَظمَت هذهِ المسألَةَ وبالَغَت فيها مِمن يَرى حُرمَةَ حَلقِ اللحية، حتى أعطَوها مِنَ القُدسيةِ أن جَعَلُوا حالِقَها مُرتكبا لكَبيرَةِ، بل تَناوَلَ بَعْضُهم بهذا الوَصْفِ مَن يَعتَني بهَيئَتِها بالأخْذِ متها وتَرتيبِها.
والقول لهذهِ الطائفَة: ائتونا ببُرهانِ غيرِ ما فصلتُ في هذا البحثِ يُبلغُ هذهِ المسألَةَ ما بلغتُموها، ولا أراكُم إلا عاجِزينَ عن ذلكَ، وسَتَرجعونَ إلى نَفسِ ما بينت مُستقصِيا هُنا، وعندَئذِ أقولُ: قَد أوجَدَني النظَرُ في هذا البَيانِ غيرَ ما أوجَدَكُم، ولم تَفصِل النصوصُ في خلافِنا، فبالله عليكُم ما كانَ هذا بابُهُ من مَسائلِ الشرعِ كَيفَ يَستقيمُ وَصفُ المخالفِ فيهِ بارتِكابِ كَبيرَة!
كَذلكَ أقولُ: اتقوا اللهَ ، وكُفوا عن عَد اللحية مِيزانا تَحسُبونَ بهِ مَقاديرَ التقوى عتدَ غَيرِكُم، فكَم مِن ذي عَقْلٍ ورأيٍ ودين وَفَضلٍ لا لِحيَةَ لَهُ؟ وكَم فيمَن تَمس لحيتُهُ سُرتَهُ ألصَقُ حالًا بعبد الله بنِ أبيٌ بن سَلول؟ واللّهُ المستَعانُ!
وَما أحْسَنَ قول أبي عُمَرَ ابنِ عَبد ِالبَر الأتدَلُسي: "الشَعرُ والحَلْقُ لا يُغْنِيانِ يوم القِيامَةِ شَيئا، وإنما المُجازاةُ على النياتِ وَالأعمالِ، فرُبَّ مَحلوقِ خَيرْ من ذِي شَعْرِ، ورُب ذِي شَعْر رَجُلا صالحاَ".
وَقالَ سُفيانُ بنُ حُسَيْنٍ الواسِطيُ، وَكانَ مُؤدٌباً: أتَدري ما السمتُ الصَالحُ؟ ليسَ هُوَ بحَلقِ الشاربِ، وَلا تَشميرِ الثوبِ، وإنما هُوَ لُزومُ طَريقِ القَومِ، إذا فَعَلَ ذلكَ قيلَ: قَدْ أصابَ السمتَ.
وتَدري ما الاقتِصادُ؟ هُوَ المشْيُ الذي ليسَ فيهِ غُلو وَلا تَقصير.
نَسْألُ اللهَ أن يهْدِيَنا سَواءَ السبيلِ، وأن يَعمُرَ قُلوبنا بالعلم المورِثِ لخَشيَتِهِ، ويُعيذَنا مِن الرياءِ والنفاقِ والخُروجِ عَنِ الصراطِ المستَقيمِ، وأستَعفرُهُ من ظلْمِ نَفْسي وتَفريطي في جَتبِهِ، إنه هُوَ الغفور الرحيم.
سُبحانَكَ اللهُم وبَحَمدِكَ، لا إلَهَ إلا أتتَ، استغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
وَالحَمدُ للهِ رَبٌ العالَمينَ.