النجـــــم
10-01-2008, 05:16 PM
وحدة الأمة
الكاتب:منح الصلح
على كتفي مصر والمملكة العربية السعودية، يرسو حالياً دور من نوع خاص، كثير الشبه بأجواء تلك الوثبة النوعية في تاريخ العرب التي قام بها الثنائي السعودي - المصري في أواخر الحرب العالمية الثانية بإطلاق مشروع جامعة الدول العربية على يدي داعيتها الشهير عبد الرحمن عزام، الشخصية العربية العامة، ذات الرمزية المصرية السعودية معاً. وقد شكل مولد الجامعة في زمانه، قفزة نوعية تاريخية التفت اليها العالم البعيد والقريب، خصوصاً وقد سميت المساعي الموصلة الى قيامها بمشاورات الوحدة العربية. ويا لها من كلمة حملت في زمانها وما تزال، اعتزاز أمة بدورها في تاريخ العالم وجغرافيته.
اليوم تجد المنطقة العربية نفسها هدفاً لسياسات تمزيقية لشعوبها، وتكبيلية لقياداتها في أقطار أساسية هي العراق ولبنان وفلسطين، وكلّها شعوب برهنت تاريخياً وتبرهن عن حيويتها ورفضها الانقياد لارادات الخارج وسياساته. ودائماً يتخذ تعامل الدول معها شكل العرقلة. فكل توجه يرمي الى توحيد بنيتها كأنظمة ودول، مُحارب، وكأن المطلوب أن تتحول هذه الاوطان المعروفة بحيويتها ونهضويتها، بؤراً للطروحات التمزيقية في الطوائف والمذاهب والحقوق السيادية. فكل شيء يوحد تواجهه العرقلة الخارجية والقمع، وكل وجه من وجوه التواصل والتساند والعرف الوطني موضع مقاومة، فلا شرائع ولا أعراف إلا الدعوات الى السير على طريق التفريق والتباعد. فالشعوب التي لم تعرف الثورات والانتفاضات إلا على الاطماع الخارجية، مهددةبأن تتحول بنيتها الى بؤر خصام وتناقض وتفتيت من النوع الخطير والمتفاقم، وكأنها مدارس مفتوحة من قوى الخارج للفرقة في الفكر والعمل وشؤون الدين والدنيا.
كان لإنشاء جامعة الدول العربية، بتعاون المملكة العربية السعودية ومصر، فضل مذكور في إفشال الرغبة الاستعمارية القديمة والواضحة في الاجهاز على هوية المنطقة الواحدة، فالحرب السياسية ضد شعوب المنطقة ودولها لم تتوقف، بل استمرت، من قبل ومن بعد، متخذة تفتيت الوحدة داخل كل وطن عربي هدفاً نراه الآن مجسداً بوضوح غير ذي شبيه في الماضي. فالسياسة الغربية تريد أن تقول أن ليس هناك شعب عراقي واحد، بل سنّة وشيعة ونصارى وأكراد وتركمان وسريان. كما أنه ليس هناك لبنان واحد، بل سنة وشيعة ومسيحيون عرب وأرمن. وليس هناك فلسطينيون، بل أسماء أحزاب، فتحيون وحماسيون. إنها الحرب على الوحدة خارج كل قطر وداخله. وما كان لفكرة الوحدة والهوية الواحدة من قدرة على الصمود هنا وهناك، إلا بتفاهم الدولتين العربيتين الكبيرتين، السعودية ومصر، فهما الدولتان الللتان على عاتقهما بالدرجة الاولى، قامت مواجهة خطر تمزيق الوحدة الذي نواجهه اليوم في كل من العراق ولبنان وفلسطين.
لم يكتف الاعداء بالوقوف ضد وحدة الامة، كما كانوا يفعلون دائماً، وفي كل مكان وزمان، بل هم اليوم ينطلقون في مساعيهم من إنكار وحدة الشعب داخل كل وطن أو دولة من دول العرب وشعوبهم، وهو تصور صهيوني بالاساس، عمل الاسرائيليون على تعميمه بمختلف الوسائل. فصدق من قال: إن الصهيونية ما هي إلا ذلك النوع من الاستعمار المتخصص بالعداء لأمة واحدة، هي الامة العربية.
رغم أن الصهيونية مجسدة بدور الوكالة اليهودية شبه الرسمي في إدارة شؤون فلسطين المنتدب عليها من بريطانيا، كانت قد اقتربت من أن تصبح ايام الانتداب البريطاني على فلسطين، كياناً شبه كامل، معترفاً به من بريطانيا والغرب، فإن إنشاء جامعة الدول العربية جاء دليلاً في زمانه على عدم غفلة العرب عن الخطر الداهم، بل على عزيمة عربية بعدم ترك فلسطين لقمة سائغة للصهيونية، تنطلق منها الى تعطيل النمو والتقدم العربي في المنطقة، وإبقاء ميزان القوى في يدها، تستغله وأصدقاؤها كما تريد في لعبة لمصلحتها ومصلحة هؤلاء الاصدقاء كما كانت تقول، المنتصرين على ألمانيا الهتلرية، عدوة الصهيونية أولاً والغرب الديموقراطي بالكامل.
إن المنطق الذي سوقت به الصهيونية مشروعها عند كل طامع دولي بامتياز أو مكسب على حساب جهة عربية أو غير عربية في العالم الثالث، قد تمثل بمخاطبة الغربيين من اصدقائها بالقول: كونوا وظلوا ملائكة يا أقوياء العالم، ودعوني أنا أكون الشيطان في عين العربي أو غيره، وما عليكم من بأس، بل لكم كل الفائدة!.
لكأن كيبلينغ، الشاعر الانكليزي الاستعماري العقلية، القائل منذ زمن بعيد: الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا،، جاء يدعو الى مواقف سبقه اليها الصهاينة منذ زمن بعيد. وقد ظلت الصهيونية تروج به لنفسها لدى القوى الكبرى، كمظلومة رقم واحد على أيدي العرب والمسلمين، والمسيحيين الشرقيين، تعمل على أن تسترد حقها بالارض في فلسطين، كضرورة حيوية للقوى الكبرى، بل وكتنفيذ دنيوي لوعد سماوي مزعوم قطعه الله تعالى على نفسه بجمع شمل بني إسرائيل في بلاد هجروا منها ظلماً وعدواناً منذ آلاف السنين.
هكذا لعبت اليهودية المتصهينة دوراً تنظيرياً شديد الاهمية في تحريض الغرب على المنطقة العربية والاسلامية، حتى حين كانت في الاندلس تتقرب من المسلمين، وتدعوهم للتنسيق معها ضد المسيحيين الاسبان.
ظل المخطط اليهودي منذ ذلك الوقت، فاشلاً في طمأنة العرب المسلمين وغير المسلمين على سلامة القصد اليهودي، الداعي باسم الشرقية المشتركة الى تحريض المسلمين على المسيحيين الاسبان، ولو أنه كاد ينجح جزئياً ولمدة قصيرة في بعض الحالات. والآن، في الازمنة الحديثة منذ بداية القرن العشرين، نجد أن ما تمارسه الصهيونية هو العكس تماماً، وذلك بالانصباب على تحريض الدول الغربية على العرب والمسلمين حيثما كانوا، وبكل الوسائل.
ما تفعله أوساط واسعة من اليهود الصهاينة، خصوصاً بعد وضوح استحالة صهينة فلسطين بالكامل، هو أولاً العمل بكل الطاقة الممكنة على نسف الجسور بين العرب المسيحيين والمسلمين العرب من جهة، والمسلمين غير العرب من جهة ثانية، بأساليب مختلفة، أهمها وأوضحها العمل على التحريض داخل الهويات الوطنية الواحدة منها ضد الاخرى. فالكتابات الاسرائيلية تتوسع في الحديث عن الصراع الداخلي في لبنان، بين جماعة 14اذار وجماعة 8آذار، كما في الخلاف في العراق بين سنة وشيعة وأكراد وتركمان، وفي فلسطين بين فتح وحماس. كل هذه يتناولها الاسرائيليون في إذاعاتهم وصحفهم من زاوية واحدة، هي إنكار وجود شعوب ذات هوية وطنية واحدة، فاللبنانيون هم في إسلامهم سنة وشيعة ودروز، وفي مسيحيتهم موارنة وأرثوذوكس وكاثوليك وانجيليون، وفي أعراقهم هم عرب وفينيقيون وأرمن وأكراد وتركمان، إلخ.
وما يراد قوله في النتيجة، هو نفي وجود الهوية الواحدة في كل هذه الحالات، وصولاً الى التركيز على أنه ليس هناك شعوب قادرة على الارادة وفرض هذه الارادة على الآخرين. فالشعوب في النهاية مفاهيم مستوردة. وما كانت الرسالة الاشد مرارة وإيلاماً، إلا في الحالة الفلسطينية حيث المستفيد المباشر هو إسرائيل.
والرسالة المراد تبليغها من الصهاينة الى العالم، هي انه ليس في هذه البلدان شعوب ولا قيادات جامعة، بل ليس من هذه الدول في المشرق إلا واحدة هي إسرائيل، تريد وتعرف ما تريد ولماذا تريد، وما هي صورة المستقبل الذي تطمح إليه. إنها إسرائيل ذات المشروع الواحد القابل للتحقيق في هذه البقعة من العالم. وعلى فرض أن في داخل هذه الدول عوامل جمع، فإن عوامل التفرقة، كما تقول إسرائيل، هي الاقوى، والراهن عليها هي الاجدى والمضمونة المردود، وإنها بالتالي الفرضية المستحقة لأن يراهن عليها الآخرون.
مثل هذا المنطق المتخصص بعداوة أمة عربية واحدة بلغتها وتاريخها وجغرافيتها وقيمها، ولو أنه يبقى عاجزاً عن تزوير حقيقة الامة العربية وأوطانها وشعوبها وحقوقها، إلا أنه ظل يتطلب من العرب أن يكونوا على مستوى التحدي، بأن يكونوا أمة واحدة، فلا يغفلوا عن أن تبقى صناعة وحدتهم القومية والوطنية والسياسية هي رسالة جهادهم، وهي دليلهم وسياجهم، فكما يراد لشعب فلسطين من إسرائيل وأصدقائها أن يكون مقسماً، جاء مؤتمر مكة المكرمة متمسكاً بالوحدة الفلسطينية المقدسة، مهما شاء الطغاة العكس. وكما جعلت المؤامرات اليوم في لبنان تصوره على أنه هو الآخر متفسخ، فإنه بالعكس يبقى على تعدديته، متوجهاً ببوصلته التوحيدية التي يتمسك بها شعبه. وهذا هو العراق يتأكد كل يوم ألاّ بديل له عن الوحدة الوطنية والقومية والاسلامية. فهذه هي البلدان المستهدفة قبل غيرها، تبدو متمسكة بطريق الوحدة. فلا يمكن أن تعطي قلبها إلا لمن نظر الى فلسطين بفتحها وحماسها على أنها واحدة، كما ظهرت في مؤتمر مكة المكرمة، ونظر الى لبنان على أنه واحد، وكذلك الى العراق الذي نادى به مؤتمر بيروت، برعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ سنوات. فالامة تعرف دربها السليم وتعرف الطريق وتعرف الرجال.
إن أهم ما في مؤتمر مكة، وإن لم نجد فلسطين قد توحدت من بعده في المعنى الكامل، إلا أنه أطلق رسالة صمود باقية في الضمير والسلوك الفلسطيني، كما أطلق أيضاً رسالة صمود للبنان والعراق، المستهدفين من الجهات المعادية ذاتها.
كان من مؤتمر مكة المكرمة لفلسطين وللعراق وللبنان، أي في كل مكان تنشط فيه عوامل التفريق، رسالة من قلب الجزيرة وعقلها الى الحفاظ على الوحدة في كل مكان تبدو فيه مهددة. وكما في الكثير من الحالات، يكون الصوت والارادة والعزم في مكان هو خميرة الوحدة التي يظل التمسك بها في كل مكان هو الخط المقدس، الذي بالتمسك به، تكون بداية النصر على كل ضعف يعانيه العرب في كل مكان. إنه صوت المستقبل، صدر من مؤتمر مكة المكرمة، وما كانت الصعوبات التي وقفت في وجهه في مكان إلا سبباً للاستهداء به في كل مكان فيه جبهات مفتوحة ضد وحدة الاقطار والامة. والواقع أن مؤتمر مكة الذي، وإن لم يحقق في نظر البعض كل غاياته في الساحة الفلسطينية، فإنه أضاء طريقاً الى التقدم والتوحد استفادت منه فلسطين والعراق ولبنان في الوقت نفسه. وما دامت الوحدة في وجه الانقسام كانت هي روحه ومناهجه، فهي لا تلهم الفلسطينيين فقط، بل تلهم اللبنانيين والعراقيين وكل وطن عربي يعاني من مشاكل الفرقة بين أهله وقادته.
الرياض
الكاتب:منح الصلح
على كتفي مصر والمملكة العربية السعودية، يرسو حالياً دور من نوع خاص، كثير الشبه بأجواء تلك الوثبة النوعية في تاريخ العرب التي قام بها الثنائي السعودي - المصري في أواخر الحرب العالمية الثانية بإطلاق مشروع جامعة الدول العربية على يدي داعيتها الشهير عبد الرحمن عزام، الشخصية العربية العامة، ذات الرمزية المصرية السعودية معاً. وقد شكل مولد الجامعة في زمانه، قفزة نوعية تاريخية التفت اليها العالم البعيد والقريب، خصوصاً وقد سميت المساعي الموصلة الى قيامها بمشاورات الوحدة العربية. ويا لها من كلمة حملت في زمانها وما تزال، اعتزاز أمة بدورها في تاريخ العالم وجغرافيته.
اليوم تجد المنطقة العربية نفسها هدفاً لسياسات تمزيقية لشعوبها، وتكبيلية لقياداتها في أقطار أساسية هي العراق ولبنان وفلسطين، وكلّها شعوب برهنت تاريخياً وتبرهن عن حيويتها ورفضها الانقياد لارادات الخارج وسياساته. ودائماً يتخذ تعامل الدول معها شكل العرقلة. فكل توجه يرمي الى توحيد بنيتها كأنظمة ودول، مُحارب، وكأن المطلوب أن تتحول هذه الاوطان المعروفة بحيويتها ونهضويتها، بؤراً للطروحات التمزيقية في الطوائف والمذاهب والحقوق السيادية. فكل شيء يوحد تواجهه العرقلة الخارجية والقمع، وكل وجه من وجوه التواصل والتساند والعرف الوطني موضع مقاومة، فلا شرائع ولا أعراف إلا الدعوات الى السير على طريق التفريق والتباعد. فالشعوب التي لم تعرف الثورات والانتفاضات إلا على الاطماع الخارجية، مهددةبأن تتحول بنيتها الى بؤر خصام وتناقض وتفتيت من النوع الخطير والمتفاقم، وكأنها مدارس مفتوحة من قوى الخارج للفرقة في الفكر والعمل وشؤون الدين والدنيا.
كان لإنشاء جامعة الدول العربية، بتعاون المملكة العربية السعودية ومصر، فضل مذكور في إفشال الرغبة الاستعمارية القديمة والواضحة في الاجهاز على هوية المنطقة الواحدة، فالحرب السياسية ضد شعوب المنطقة ودولها لم تتوقف، بل استمرت، من قبل ومن بعد، متخذة تفتيت الوحدة داخل كل وطن عربي هدفاً نراه الآن مجسداً بوضوح غير ذي شبيه في الماضي. فالسياسة الغربية تريد أن تقول أن ليس هناك شعب عراقي واحد، بل سنّة وشيعة ونصارى وأكراد وتركمان وسريان. كما أنه ليس هناك لبنان واحد، بل سنة وشيعة ومسيحيون عرب وأرمن. وليس هناك فلسطينيون، بل أسماء أحزاب، فتحيون وحماسيون. إنها الحرب على الوحدة خارج كل قطر وداخله. وما كان لفكرة الوحدة والهوية الواحدة من قدرة على الصمود هنا وهناك، إلا بتفاهم الدولتين العربيتين الكبيرتين، السعودية ومصر، فهما الدولتان الللتان على عاتقهما بالدرجة الاولى، قامت مواجهة خطر تمزيق الوحدة الذي نواجهه اليوم في كل من العراق ولبنان وفلسطين.
لم يكتف الاعداء بالوقوف ضد وحدة الامة، كما كانوا يفعلون دائماً، وفي كل مكان وزمان، بل هم اليوم ينطلقون في مساعيهم من إنكار وحدة الشعب داخل كل وطن أو دولة من دول العرب وشعوبهم، وهو تصور صهيوني بالاساس، عمل الاسرائيليون على تعميمه بمختلف الوسائل. فصدق من قال: إن الصهيونية ما هي إلا ذلك النوع من الاستعمار المتخصص بالعداء لأمة واحدة، هي الامة العربية.
رغم أن الصهيونية مجسدة بدور الوكالة اليهودية شبه الرسمي في إدارة شؤون فلسطين المنتدب عليها من بريطانيا، كانت قد اقتربت من أن تصبح ايام الانتداب البريطاني على فلسطين، كياناً شبه كامل، معترفاً به من بريطانيا والغرب، فإن إنشاء جامعة الدول العربية جاء دليلاً في زمانه على عدم غفلة العرب عن الخطر الداهم، بل على عزيمة عربية بعدم ترك فلسطين لقمة سائغة للصهيونية، تنطلق منها الى تعطيل النمو والتقدم العربي في المنطقة، وإبقاء ميزان القوى في يدها، تستغله وأصدقاؤها كما تريد في لعبة لمصلحتها ومصلحة هؤلاء الاصدقاء كما كانت تقول، المنتصرين على ألمانيا الهتلرية، عدوة الصهيونية أولاً والغرب الديموقراطي بالكامل.
إن المنطق الذي سوقت به الصهيونية مشروعها عند كل طامع دولي بامتياز أو مكسب على حساب جهة عربية أو غير عربية في العالم الثالث، قد تمثل بمخاطبة الغربيين من اصدقائها بالقول: كونوا وظلوا ملائكة يا أقوياء العالم، ودعوني أنا أكون الشيطان في عين العربي أو غيره، وما عليكم من بأس، بل لكم كل الفائدة!.
لكأن كيبلينغ، الشاعر الانكليزي الاستعماري العقلية، القائل منذ زمن بعيد: الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا،، جاء يدعو الى مواقف سبقه اليها الصهاينة منذ زمن بعيد. وقد ظلت الصهيونية تروج به لنفسها لدى القوى الكبرى، كمظلومة رقم واحد على أيدي العرب والمسلمين، والمسيحيين الشرقيين، تعمل على أن تسترد حقها بالارض في فلسطين، كضرورة حيوية للقوى الكبرى، بل وكتنفيذ دنيوي لوعد سماوي مزعوم قطعه الله تعالى على نفسه بجمع شمل بني إسرائيل في بلاد هجروا منها ظلماً وعدواناً منذ آلاف السنين.
هكذا لعبت اليهودية المتصهينة دوراً تنظيرياً شديد الاهمية في تحريض الغرب على المنطقة العربية والاسلامية، حتى حين كانت في الاندلس تتقرب من المسلمين، وتدعوهم للتنسيق معها ضد المسيحيين الاسبان.
ظل المخطط اليهودي منذ ذلك الوقت، فاشلاً في طمأنة العرب المسلمين وغير المسلمين على سلامة القصد اليهودي، الداعي باسم الشرقية المشتركة الى تحريض المسلمين على المسيحيين الاسبان، ولو أنه كاد ينجح جزئياً ولمدة قصيرة في بعض الحالات. والآن، في الازمنة الحديثة منذ بداية القرن العشرين، نجد أن ما تمارسه الصهيونية هو العكس تماماً، وذلك بالانصباب على تحريض الدول الغربية على العرب والمسلمين حيثما كانوا، وبكل الوسائل.
ما تفعله أوساط واسعة من اليهود الصهاينة، خصوصاً بعد وضوح استحالة صهينة فلسطين بالكامل، هو أولاً العمل بكل الطاقة الممكنة على نسف الجسور بين العرب المسيحيين والمسلمين العرب من جهة، والمسلمين غير العرب من جهة ثانية، بأساليب مختلفة، أهمها وأوضحها العمل على التحريض داخل الهويات الوطنية الواحدة منها ضد الاخرى. فالكتابات الاسرائيلية تتوسع في الحديث عن الصراع الداخلي في لبنان، بين جماعة 14اذار وجماعة 8آذار، كما في الخلاف في العراق بين سنة وشيعة وأكراد وتركمان، وفي فلسطين بين فتح وحماس. كل هذه يتناولها الاسرائيليون في إذاعاتهم وصحفهم من زاوية واحدة، هي إنكار وجود شعوب ذات هوية وطنية واحدة، فاللبنانيون هم في إسلامهم سنة وشيعة ودروز، وفي مسيحيتهم موارنة وأرثوذوكس وكاثوليك وانجيليون، وفي أعراقهم هم عرب وفينيقيون وأرمن وأكراد وتركمان، إلخ.
وما يراد قوله في النتيجة، هو نفي وجود الهوية الواحدة في كل هذه الحالات، وصولاً الى التركيز على أنه ليس هناك شعوب قادرة على الارادة وفرض هذه الارادة على الآخرين. فالشعوب في النهاية مفاهيم مستوردة. وما كانت الرسالة الاشد مرارة وإيلاماً، إلا في الحالة الفلسطينية حيث المستفيد المباشر هو إسرائيل.
والرسالة المراد تبليغها من الصهاينة الى العالم، هي انه ليس في هذه البلدان شعوب ولا قيادات جامعة، بل ليس من هذه الدول في المشرق إلا واحدة هي إسرائيل، تريد وتعرف ما تريد ولماذا تريد، وما هي صورة المستقبل الذي تطمح إليه. إنها إسرائيل ذات المشروع الواحد القابل للتحقيق في هذه البقعة من العالم. وعلى فرض أن في داخل هذه الدول عوامل جمع، فإن عوامل التفرقة، كما تقول إسرائيل، هي الاقوى، والراهن عليها هي الاجدى والمضمونة المردود، وإنها بالتالي الفرضية المستحقة لأن يراهن عليها الآخرون.
مثل هذا المنطق المتخصص بعداوة أمة عربية واحدة بلغتها وتاريخها وجغرافيتها وقيمها، ولو أنه يبقى عاجزاً عن تزوير حقيقة الامة العربية وأوطانها وشعوبها وحقوقها، إلا أنه ظل يتطلب من العرب أن يكونوا على مستوى التحدي، بأن يكونوا أمة واحدة، فلا يغفلوا عن أن تبقى صناعة وحدتهم القومية والوطنية والسياسية هي رسالة جهادهم، وهي دليلهم وسياجهم، فكما يراد لشعب فلسطين من إسرائيل وأصدقائها أن يكون مقسماً، جاء مؤتمر مكة المكرمة متمسكاً بالوحدة الفلسطينية المقدسة، مهما شاء الطغاة العكس. وكما جعلت المؤامرات اليوم في لبنان تصوره على أنه هو الآخر متفسخ، فإنه بالعكس يبقى على تعدديته، متوجهاً ببوصلته التوحيدية التي يتمسك بها شعبه. وهذا هو العراق يتأكد كل يوم ألاّ بديل له عن الوحدة الوطنية والقومية والاسلامية. فهذه هي البلدان المستهدفة قبل غيرها، تبدو متمسكة بطريق الوحدة. فلا يمكن أن تعطي قلبها إلا لمن نظر الى فلسطين بفتحها وحماسها على أنها واحدة، كما ظهرت في مؤتمر مكة المكرمة، ونظر الى لبنان على أنه واحد، وكذلك الى العراق الذي نادى به مؤتمر بيروت، برعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ سنوات. فالامة تعرف دربها السليم وتعرف الطريق وتعرف الرجال.
إن أهم ما في مؤتمر مكة، وإن لم نجد فلسطين قد توحدت من بعده في المعنى الكامل، إلا أنه أطلق رسالة صمود باقية في الضمير والسلوك الفلسطيني، كما أطلق أيضاً رسالة صمود للبنان والعراق، المستهدفين من الجهات المعادية ذاتها.
كان من مؤتمر مكة المكرمة لفلسطين وللعراق وللبنان، أي في كل مكان تنشط فيه عوامل التفريق، رسالة من قلب الجزيرة وعقلها الى الحفاظ على الوحدة في كل مكان تبدو فيه مهددة. وكما في الكثير من الحالات، يكون الصوت والارادة والعزم في مكان هو خميرة الوحدة التي يظل التمسك بها في كل مكان هو الخط المقدس، الذي بالتمسك به، تكون بداية النصر على كل ضعف يعانيه العرب في كل مكان. إنه صوت المستقبل، صدر من مؤتمر مكة المكرمة، وما كانت الصعوبات التي وقفت في وجهه في مكان إلا سبباً للاستهداء به في كل مكان فيه جبهات مفتوحة ضد وحدة الاقطار والامة. والواقع أن مؤتمر مكة الذي، وإن لم يحقق في نظر البعض كل غاياته في الساحة الفلسطينية، فإنه أضاء طريقاً الى التقدم والتوحد استفادت منه فلسطين والعراق ولبنان في الوقت نفسه. وما دامت الوحدة في وجه الانقسام كانت هي روحه ومناهجه، فهي لا تلهم الفلسطينيين فقط، بل تلهم اللبنانيين والعراقيين وكل وطن عربي يعاني من مشاكل الفرقة بين أهله وقادته.
الرياض