امارة الاوس
01-02-2013, 09:57 AM
العباس بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)
إسمهُ :
هو العباس (الأكبر) بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.. واسمه مأخوذ من عبسَ تعبيساً فهو مُعبس، وعباس كشدّاد، وهو من أسماء الأسد...
قال الله تعالى : (إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قَمطَريرا)..(الإنسان/10).. أي : يوماً شديداً.. وهو صفة لأصحاب اليوم.. وقد سمّاه أبوه عباساً كناية عن الشدة والشجاعة متمنياً من الله سبحانه وتعالى أن يكون بطلاً من أبطال الإسلام، عبوساً في وجه المنكر والباطل، مبتسماً في وجه الخير...
كُنيته:
اشتهر العباس(عليه السلام) بكُنى عديدة،وقد أُطلق بعضها عليه يوم الطف، والبعض الآخر كان ثابتاً له من قبل، ومن هذه الكُنى:
1- أبو الفضل.
2- أبو قربة.
وأوردت بعض المراجع المعنية بتأريخ العباس (عليه السلام) جملة من الكُنى التي كان يُكنّى بها، منها: ( أبو القاسم ) حيث قيل أن له ولداً أسمه القاسم، استشهد معه يوم الطف، و(أبو فاضل) و (إبن البدوية) و(أبو الشارة) و(أبو راس الحار) و (أبو فرجة)...
ألقابهُ:
يحكي الألقاب الصفات النفسية لحاملها، حسِنة كانت أم سيئة،وقد أُطلق على العباس (عليه السلام) عدة ألقاب رفيعة، تنُم عن نزعاته النفسية الطيبة وعمّا اتصف به من مكارم، ومن هذه الألقاب:-
1- قمر بني هاشم.
2- السقّا.
3- حامل اللواء.
4- كَبش الكتيبة.
5- العبد الصالح.
6- باب الحوائج.
7- الشهيد.
وقد لُقّب (عليه السلام) بألقاب عديدة اخرى،منها: بطل العلقمي، والعلقمي: هو النهر الذي استشهد على ضفافه العباس (عليه السلام)، وقد استطاع بعزمه الجبار وبطولته النادرة أن يجندل الجيش البائس ويهزم أقزام ذلك الجيش ويصل النهر عدة مرات...
أسرته :
للتعرف على أسرته لابد أن نبدأ بأبيه، فهو أول المؤمنين وولاة المسلمين، وخلفاء الله تعالى في الدين بعد رسول الله الصادق الأمين محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين (عليهم صلوات الله أجمعين) وأخو رسول الله وابن عمه ووزيره على أمره، وصهره على ابنته فاطمة البتول (عليها السلام) سيدة نساء العالمين... وكنيته أبو الحسن والحسين، وقد كناه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ (أبو تراب)... وكانت من أحب الكنى الى قلبه، ولد بمكة في البيت الحرام، يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة 30 من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام، وهي فضيلة خصّه الله بها إجلالاً له وإعلاءً لرتبته وإظهاراً لكرامته، كما إنها تحمل تقديراً خاصاً لوالديه..
وفي التاسع عشر من رمضان سنة 40 هـ قام عبد الرحمن بن ملجم المرادي بضرب الإمام علي (عليه السلام) بالسيف على رأسه الشريف، فقال الإمام علي (عليه السلام) : فزتُ وربّ الكعبة... وفي الحادي والعشرين من رمضان توفي الإمام علي (عليه السلام) وغسّله ابناه الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر وكُفّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وكبّر عليه الحسن (عليه السلام) تسع تكبيرات..
أما أم العباس (عليه السلام) فهي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن هوازن، وكنيتها أم البنين، وأمها ثُمامة بنت سُهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، وفي رواية أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل، وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم : أنظر لي امرأة قد ولدتها الفحول من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً، فقال عقيل: تزوج فاطمة بنت حزام الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها..
ولم تذكر كتب التاريخ سنة ولادة هذه السيدة الكريمة، في حين كانت تلك الكتب تُحصي لنا صغائر الأمور وتوافهها في مجالس اللهو والطرب في أزمان مختلفة، ويمكن القول أن زواجها من الإمام علي (عليه السلام) قبل سنة 26هـ وهي سنة ولادة العباس (عليه السلام) وبذلك يكون عمرها يوم ولادة العباس (عليه السلام) ما بين (18 الى 22سنة) وبذلك تكون ولادتها الكريمة تقع ما بين (5-9 هـ)، وقيل أن عمرها يوم كربلاء كان خمساً وخمسين سنة..
وفي الثالث عشر من جمادي الثانية سنة 64هـ توفيت أم البنين (عليها السلام) ودفنت في البقيع، ولا ينكر أحد من العرب أن قومها من شجعان العرب...
أما أعمام العباس (عليه السلام) فكانوا مثال الشجاعة والبسالة، فقد كان لأبي طالب أربعة بنين: طالب وعقيل وجعفر وعلي (عليهم السلام) وكان كل منهم أكبر من الآخر بعشر سنين، حسب التسلسل، فيكون طالب أكبر من علي (عليه السلام) بثلاثين سنة، وبه كان يكنى أبوه، وأمهم جميعاً فاطمة بنت أسد، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي...
فطالب أكرهته قريش على الخروج الى بدر، ففُقد ولم يعرف له خبر، ويقال أنه أكره فرسه بالبحر حتى غرق، اما عقيل فقد كان يكنى أبا يزيد، وكان أبو طالب يحبه حباً شديداً، وبذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأحبك حبين، حباً لك، وحباً لحب أبي طالب...
وكان عقيل نسابة عالماً بأنساب العرب وقريش، وخرج عقيل الى بدر مع قريش فأسر وفداه عمه العباس بن عبد المطلب، توفي عقيل بن أبي طالب سنة 56هـ ...
وعمه الآخر جعفر بن أبي طالب، كان يكنى أبا عبد الله وأبا المساكين لرأفته عليهم واحسانه اليهم، هاجر فيمن هاجر الى الحبشة، ورجع منها، فوصل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يوم فتح خيبر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أدري بأيهما أنا أشدّ فرحاً، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر... ولذلك يقال لجعفر بن أبي طالب: ذو الهجرتين (يعني الحبشة والمدينة)...
ولما جهّز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه الى مؤتة من أرض الشام، أمّر عليهم زيد بن حارثة فإن قُتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، فاستشهد الثلاثة، وقاتل جعفر حتى قُطعت يده اليُمنى، فأخذ الراية بيده اليسرى وقاتل حتى قُطعت يده اليسرى، فاعتنق الراية وضمها الى صدره حتى قُتل..
ولادته :
ولد العباس بن علي (عليه السلام) في بيت هاشمي محمدي علوي، تميز بالإيمان والتقوى والأخلاق والإنسانية والشهامة والصدق والسخاء والعلم والعمل...
وفتح عينيه على أنوار العصمة والولاية، فنبضت في عروقه مناقب الأطهار وتشعشعت من ذاته أنوار النجباء الأخيار الذين تربوا في كنف النبوة وحجر الإمامة...
وذكر بعض المؤرخين على أن ولادته الكريمة بالمدينة المنورة يوم الجمعة الرابع من شعبان سنة 26 من الهجرة النبوية الشريفة...
وبعدما بُشّر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بولادة العباس (عليه السلام) سارع الى الدار فتناوله بيده وصار يوسعه لثماً وتقبيلاً، ثم أذّن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، وأخذ يقبّل كفّيه الناعمين، ومن ثم بدأ يقلبهما وعيناه تفيض بالدمع، وهو يقول:
عزيزٌ عليّ يا ولدي، وقد رأت السيدة أم البنين (عليها السلام) ذلك فقال له وهي مذهولة: يا أبا الحسن ما يُبكيك؟ فكشف لها عن غامض القضاء وما يجري على هذا الوليد يوم عاشوراء من قطع كفيه وأصابه عينه بالسهم وانفلاق هامته بعمد من حديد، وهذا ما اخبره به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبريل عن الله تعالى...
نشأته:
نشأ العباس (عليه السلام) في حجر الإمامة وارتضع من ثدي الإيمان وتربى وترعرع في بيت الوحي المحمدي العلوي، تحت رعاية والده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى مُزجت نفسه النقية بعظمة النبوة وجلالة الإمامة...
وقد نشأ العباس (عليه السلام) نشأة صالحة كريمة قلما يظفر بها إنسان في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، كما غرست فيه أمه السيدة أم البنين (عليها السلام) جميع صفات الفضيلة والكمال، وظل ذلك ملازماً له طوال حياته...
• دور العباس (عليه السلام) في معركة الطف:
في اليوم التاسع من المحرم وبعد صلاة العصر نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي... فركب الناس وزحفوا نحو معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) والحسين جالس امام بيته محتبياً بسيفه إذ خفق برأسه بين ركبتيه، وسمعت أخته زينب (عليها السلام) الصيحة، فدنت من أخيها وقالت: يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت، فقال لها بعد أن رفع رأسه اليها: إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام، فقال لي (إنك تروح لنا) فلطمت زينب (عليها السلام) وجهها وقالت: يا ويلتي، فقال لها: ليس لك الويل يا أخيه، اسكتي رحمك الله...
وقال العباس (عليه السلام) : يا أخي اتاك القوم... فنهض الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: يا عباس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم ما لكم وما بدا لكم، وتسألهم عما جاء بهم، فأتاهم العباس (عليه السلام) فاستقبلهم في نحو عشرين فارساً وفيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العباس (عليه السلام) : ما بدا لكم وما تريدون؟ قالوا: جاء امر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم... فقال لهم: فلا تعجلون حتى أرجع الى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.. فوقفوا وقالوا له: القه فأعلمه ذلك ثم ألقنا بما يقول...
فأنصرف العباس (عليه السلام) راجعاً يركض إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يخبره بالخبر،ووقف أصحاب الحسين(عليه السلام) يخاطبون القوم وينصحوهم من عواقب قتل ذرية النبي (صلى الله عليه وآله)، ووصل العباس (عليه السلام) الى الإمام الحسين وأخبره بما يريدون، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : أرجع اليهم فإن استطعت أن تؤخرهم الى غدوة، وتدفعهم عنا هذه العشية لعلنا نصلي لربنا وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني قد كنتُ أحب الصلاة وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار... فذهب العباس (عليه السلام) اليهم وقال لهم: إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر...
فقال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال شمر: ما ترى أنت؟ أنت الأمير والرأي رأيك، فقال عمر بن سعد: قد أردت أن لا أكون ، ثم أقبل على الناس وقال لهم: ما ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج: سبحان الله، والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم اليها..
فجاء رسول عمر بن سعد الى الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: إنّا قد أجّلناكم الى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم الى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم...
فجمع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه واهل بيته بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: اللهم لك الحمد على ما علمتنا من القرآن، وفقهتنا في الدين، وأكرمتنا به من قرابة رسولك محمد (صلى الله عليه وآله)وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة،فأجعلنا من الشاكرين،أما بعد:فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا أصلح ولا خير من أصحابي،ولا أعلم أهل بيت أبر وأوصل وأفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً، إن هؤلاء القوم يطلبونني ولا يطلبون أحد منكم، ولو قد أصابوني وقدروا على قتلي لما طالبوكم أبداً.. فأنطلقوا جميعاً ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فقوموا واتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أخوتي وتفرقوا في سواد الليل، وذروني وهؤلاء القوم...
فقام العباس بن علي (عليه السلام) وقال: لم نفعل، لنبقى معك؟ لا أرانا الله ذلك، وهنا علت صيحة أصحاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيته بالقول نفسه، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم، فقالوا له: فما يقول الناس؟ تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ذلك ولكن نفديك انفسنا وأموالنا وأهلونا... ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك..
وفي اليوم العاشر من المحرم لما رأى العباس (عليه السلام) وحدة أخيه الحسين (عليه السلام) بعد استشهاد أصحابه وأهل بيته فقال للإمام الحسين (عليه السلام) : أخي هل من رخصة؟ فبكى الإمام الحسين (عليه السلام) حتى ابتلت لحيته بالدمع، وقال له: أخي أنت العلامة من عسكري، وأنت مجمع عددنا، وأنت حامل لوائي، فإذا غدوت يؤول جمعنا الى الشتات، وعمارتنا الى الخراب، فقال العباس (عليه السلام) :
فداك روح أخيك يا سيدي، لقد ضاق صدري من الحياة الدنيا، وأيد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين...
فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : إذا غدوت الى الجهاد فأطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء، فأخذ القربة وانطلق اليهم...
ونادى: يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء، قد أحرق الظمأ قلوبهم، وساد صمت رهيب على قوات عمر بن سعد، ووجم الكثيرون، فرد شمر بن ذي الجوشن :
يا بن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كله ماء، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد، فرجع الى أخيه الإمام الحسين(عليه السلام) فأخبره بردهم،فسمع الأطفال ينادون:العطش، العطش.... فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد الفرات وهو يقول:
أقــــسمتُ بالله الأعز الأعـــظم وبالحــــجون صادقاً وزمزم
وذو الحطيم والفــــنا الـــمحرم ليخضبن اليوم جسمي بدمي
دون الـحسين ذي الفـخار الأقدم إمام أهل الفــــــضل والتكرم
وتكالبوا عليه كالسيل الجارف وهو يضرب فيهم ويقول:
لا أرهبُ الموت إذا الــــموت زقا حتى أوارى في المصاليت لقا
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا ولا أخاف طارقاً إذ أطـــــرقا
بل أضرب الهام وأفري المــفرقا إني أنا العباس أغدو بالسقــــا
ولا اخاف الموت عن الملتقى
وقطعوا الطريق عليه الى الشريعة، فنزل عليهم كالصاعقة، فكشفهم عنها وكانوا أربعة آلاف، وهو يقول:-
أقاتــل القـــوم بقلب مهتد أذبُّ عن سبط الــــنبي أحمد
أضربكم بالصارم المهند حتى تحيدوا عن قتال سيدي
إني أنا العباس ذو التودد نجل علي المرتضـى المؤيد
فانهزم القوم من امامه، فأقحم العباس (عليه السلام) فرسه بالفرات، وقد أجهده القتال ونال منه العطش ففت كبده، وأخذ يملأ القربة، ومد يده الى الماء فأغترف غرفة، فتذكر عطش إمامه الحسين (عليه السلام) وعياله فرمى الماء من يده وهو يقول:
يا نفس من بعد الحسين هـوني فبعده لا كنت أن تكوني
هذا حســــين وارد الـــمنــــون وتشربين بارد المـــعين
هيهات ما هــــذا فعــــال ديني ولا فعال صادق اليــقين
وحمل القربة وعاد مسرعاً الى معسكر اخيه الإمام الحسين (عليه السلام) فكمّن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، فضربه على يمينه فبراها فأخذ اللواء بشماله وهو يقول:-
والله إن قطعتم يمـــيني إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين
نبي صدق جاءنا بالدين مصدقاً بالواحـــــد الأمين
وقاتل العباس (عليه السلام) حتى ضعف من كثرة الجراح، وشدة النزف،وكمّن له حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي من وراء نخلة، فضربه على شماله فبراها من الزند، فسقط لواء سيد الشهداء (عليه السلام) مع يده اليسرى، وحمل القربة بأسنانه خوفاً عليها من السقوط، وكان يقول:-
يا نفس لا تخشي من الكفار وأبشري برحمــــة الجبار
مع النبي الســــيد المخـــتار وجملة السادات والأطهار
قد قطعوا ببغيهــــم يساري فأصلهم يا ربّ حــرّ النار
وأراد أن يوصل القربة الى عطاشى أهل البيت، لكنهم قطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب، فجاء سهم وأصاب القربة فأُريق مائها، وجاء سهم آخر فأصابه في عينه، وضربه حكيم بن الطفيل بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته وانقلب عن فرسه وصاح: أدركني يا أخي...
وأنقض الإمام الحسين (عليه السلام) كالنجم الثاقب قائلاً: وا اخاه.. وا عباساه.. وا مهجة قلباه... ففرقهم عنه وقتل منهم الكثير، ونزل اليه فوجده مطروحاً جنب الشريعة مجروحاً عطشاناً قطيع الكفين مبضع الجسد، فبكى بكاءً شديداً، وقال (عليه السلام) : الآن أنكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي، جزاك الله من أخ خيراً، لقد جاهدت في الله حق جهاده...
وعاد الإمام الحسين (عليه السلام) الى معسكره فرأته ابنته سكينة مقبلاً فأخذت بعنان جواده وقالت: أين عمي العباس؟ أراه أبطأ بالماء؟ فقال لها: إن عمك العباس قُتل.. فسمعت زينب(عليها السلام) فصاحت : وا أخاه.. وا عباساه.. وا ضيعتنا من بعدك... وبكت النسوة وبكى الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل، وأنشد يقول:
أخي يا نور عيني يا شـــــقيقي فلي قد كنت كالركن الوثــــيق
أيا ابن أبي نصحت اخاك حتى سقاك الله كأساً من رحــــيـــق
أيا قمراً مــنيراً كنـــت عونـي على كل النوائب في المضيــق
فبعدك لا تطيـــب لنـــا حيــــاة سنجمع في الغداة على الحقيق
ألا لله شكوائــــي وصـــبــري وما ألـــقاه من ظمأ وضيــــق
وسنوافيكم بتفاصيل اخرى في كتاب لاحقا عن العباس بن علي (عليه السلام)
إسمهُ :
هو العباس (الأكبر) بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.. واسمه مأخوذ من عبسَ تعبيساً فهو مُعبس، وعباس كشدّاد، وهو من أسماء الأسد...
قال الله تعالى : (إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قَمطَريرا)..(الإنسان/10).. أي : يوماً شديداً.. وهو صفة لأصحاب اليوم.. وقد سمّاه أبوه عباساً كناية عن الشدة والشجاعة متمنياً من الله سبحانه وتعالى أن يكون بطلاً من أبطال الإسلام، عبوساً في وجه المنكر والباطل، مبتسماً في وجه الخير...
كُنيته:
اشتهر العباس(عليه السلام) بكُنى عديدة،وقد أُطلق بعضها عليه يوم الطف، والبعض الآخر كان ثابتاً له من قبل، ومن هذه الكُنى:
1- أبو الفضل.
2- أبو قربة.
وأوردت بعض المراجع المعنية بتأريخ العباس (عليه السلام) جملة من الكُنى التي كان يُكنّى بها، منها: ( أبو القاسم ) حيث قيل أن له ولداً أسمه القاسم، استشهد معه يوم الطف، و(أبو فاضل) و (إبن البدوية) و(أبو الشارة) و(أبو راس الحار) و (أبو فرجة)...
ألقابهُ:
يحكي الألقاب الصفات النفسية لحاملها، حسِنة كانت أم سيئة،وقد أُطلق على العباس (عليه السلام) عدة ألقاب رفيعة، تنُم عن نزعاته النفسية الطيبة وعمّا اتصف به من مكارم، ومن هذه الألقاب:-
1- قمر بني هاشم.
2- السقّا.
3- حامل اللواء.
4- كَبش الكتيبة.
5- العبد الصالح.
6- باب الحوائج.
7- الشهيد.
وقد لُقّب (عليه السلام) بألقاب عديدة اخرى،منها: بطل العلقمي، والعلقمي: هو النهر الذي استشهد على ضفافه العباس (عليه السلام)، وقد استطاع بعزمه الجبار وبطولته النادرة أن يجندل الجيش البائس ويهزم أقزام ذلك الجيش ويصل النهر عدة مرات...
أسرته :
للتعرف على أسرته لابد أن نبدأ بأبيه، فهو أول المؤمنين وولاة المسلمين، وخلفاء الله تعالى في الدين بعد رسول الله الصادق الأمين محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين (عليهم صلوات الله أجمعين) وأخو رسول الله وابن عمه ووزيره على أمره، وصهره على ابنته فاطمة البتول (عليها السلام) سيدة نساء العالمين... وكنيته أبو الحسن والحسين، وقد كناه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ (أبو تراب)... وكانت من أحب الكنى الى قلبه، ولد بمكة في البيت الحرام، يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة 30 من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام، وهي فضيلة خصّه الله بها إجلالاً له وإعلاءً لرتبته وإظهاراً لكرامته، كما إنها تحمل تقديراً خاصاً لوالديه..
وفي التاسع عشر من رمضان سنة 40 هـ قام عبد الرحمن بن ملجم المرادي بضرب الإمام علي (عليه السلام) بالسيف على رأسه الشريف، فقال الإمام علي (عليه السلام) : فزتُ وربّ الكعبة... وفي الحادي والعشرين من رمضان توفي الإمام علي (عليه السلام) وغسّله ابناه الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر وكُفّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وكبّر عليه الحسن (عليه السلام) تسع تكبيرات..
أما أم العباس (عليه السلام) فهي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن هوازن، وكنيتها أم البنين، وأمها ثُمامة بنت سُهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، وفي رواية أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل، وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم : أنظر لي امرأة قد ولدتها الفحول من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً، فقال عقيل: تزوج فاطمة بنت حزام الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها..
ولم تذكر كتب التاريخ سنة ولادة هذه السيدة الكريمة، في حين كانت تلك الكتب تُحصي لنا صغائر الأمور وتوافهها في مجالس اللهو والطرب في أزمان مختلفة، ويمكن القول أن زواجها من الإمام علي (عليه السلام) قبل سنة 26هـ وهي سنة ولادة العباس (عليه السلام) وبذلك يكون عمرها يوم ولادة العباس (عليه السلام) ما بين (18 الى 22سنة) وبذلك تكون ولادتها الكريمة تقع ما بين (5-9 هـ)، وقيل أن عمرها يوم كربلاء كان خمساً وخمسين سنة..
وفي الثالث عشر من جمادي الثانية سنة 64هـ توفيت أم البنين (عليها السلام) ودفنت في البقيع، ولا ينكر أحد من العرب أن قومها من شجعان العرب...
أما أعمام العباس (عليه السلام) فكانوا مثال الشجاعة والبسالة، فقد كان لأبي طالب أربعة بنين: طالب وعقيل وجعفر وعلي (عليهم السلام) وكان كل منهم أكبر من الآخر بعشر سنين، حسب التسلسل، فيكون طالب أكبر من علي (عليه السلام) بثلاثين سنة، وبه كان يكنى أبوه، وأمهم جميعاً فاطمة بنت أسد، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي...
فطالب أكرهته قريش على الخروج الى بدر، ففُقد ولم يعرف له خبر، ويقال أنه أكره فرسه بالبحر حتى غرق، اما عقيل فقد كان يكنى أبا يزيد، وكان أبو طالب يحبه حباً شديداً، وبذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأحبك حبين، حباً لك، وحباً لحب أبي طالب...
وكان عقيل نسابة عالماً بأنساب العرب وقريش، وخرج عقيل الى بدر مع قريش فأسر وفداه عمه العباس بن عبد المطلب، توفي عقيل بن أبي طالب سنة 56هـ ...
وعمه الآخر جعفر بن أبي طالب، كان يكنى أبا عبد الله وأبا المساكين لرأفته عليهم واحسانه اليهم، هاجر فيمن هاجر الى الحبشة، ورجع منها، فوصل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يوم فتح خيبر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أدري بأيهما أنا أشدّ فرحاً، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر... ولذلك يقال لجعفر بن أبي طالب: ذو الهجرتين (يعني الحبشة والمدينة)...
ولما جهّز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه الى مؤتة من أرض الشام، أمّر عليهم زيد بن حارثة فإن قُتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، فاستشهد الثلاثة، وقاتل جعفر حتى قُطعت يده اليُمنى، فأخذ الراية بيده اليسرى وقاتل حتى قُطعت يده اليسرى، فاعتنق الراية وضمها الى صدره حتى قُتل..
ولادته :
ولد العباس بن علي (عليه السلام) في بيت هاشمي محمدي علوي، تميز بالإيمان والتقوى والأخلاق والإنسانية والشهامة والصدق والسخاء والعلم والعمل...
وفتح عينيه على أنوار العصمة والولاية، فنبضت في عروقه مناقب الأطهار وتشعشعت من ذاته أنوار النجباء الأخيار الذين تربوا في كنف النبوة وحجر الإمامة...
وذكر بعض المؤرخين على أن ولادته الكريمة بالمدينة المنورة يوم الجمعة الرابع من شعبان سنة 26 من الهجرة النبوية الشريفة...
وبعدما بُشّر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بولادة العباس (عليه السلام) سارع الى الدار فتناوله بيده وصار يوسعه لثماً وتقبيلاً، ثم أذّن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، وأخذ يقبّل كفّيه الناعمين، ومن ثم بدأ يقلبهما وعيناه تفيض بالدمع، وهو يقول:
عزيزٌ عليّ يا ولدي، وقد رأت السيدة أم البنين (عليها السلام) ذلك فقال له وهي مذهولة: يا أبا الحسن ما يُبكيك؟ فكشف لها عن غامض القضاء وما يجري على هذا الوليد يوم عاشوراء من قطع كفيه وأصابه عينه بالسهم وانفلاق هامته بعمد من حديد، وهذا ما اخبره به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبريل عن الله تعالى...
نشأته:
نشأ العباس (عليه السلام) في حجر الإمامة وارتضع من ثدي الإيمان وتربى وترعرع في بيت الوحي المحمدي العلوي، تحت رعاية والده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى مُزجت نفسه النقية بعظمة النبوة وجلالة الإمامة...
وقد نشأ العباس (عليه السلام) نشأة صالحة كريمة قلما يظفر بها إنسان في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، كما غرست فيه أمه السيدة أم البنين (عليها السلام) جميع صفات الفضيلة والكمال، وظل ذلك ملازماً له طوال حياته...
• دور العباس (عليه السلام) في معركة الطف:
في اليوم التاسع من المحرم وبعد صلاة العصر نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي... فركب الناس وزحفوا نحو معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) والحسين جالس امام بيته محتبياً بسيفه إذ خفق برأسه بين ركبتيه، وسمعت أخته زينب (عليها السلام) الصيحة، فدنت من أخيها وقالت: يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت، فقال لها بعد أن رفع رأسه اليها: إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام، فقال لي (إنك تروح لنا) فلطمت زينب (عليها السلام) وجهها وقالت: يا ويلتي، فقال لها: ليس لك الويل يا أخيه، اسكتي رحمك الله...
وقال العباس (عليه السلام) : يا أخي اتاك القوم... فنهض الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: يا عباس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم ما لكم وما بدا لكم، وتسألهم عما جاء بهم، فأتاهم العباس (عليه السلام) فاستقبلهم في نحو عشرين فارساً وفيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العباس (عليه السلام) : ما بدا لكم وما تريدون؟ قالوا: جاء امر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم... فقال لهم: فلا تعجلون حتى أرجع الى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.. فوقفوا وقالوا له: القه فأعلمه ذلك ثم ألقنا بما يقول...
فأنصرف العباس (عليه السلام) راجعاً يركض إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يخبره بالخبر،ووقف أصحاب الحسين(عليه السلام) يخاطبون القوم وينصحوهم من عواقب قتل ذرية النبي (صلى الله عليه وآله)، ووصل العباس (عليه السلام) الى الإمام الحسين وأخبره بما يريدون، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : أرجع اليهم فإن استطعت أن تؤخرهم الى غدوة، وتدفعهم عنا هذه العشية لعلنا نصلي لربنا وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني قد كنتُ أحب الصلاة وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار... فذهب العباس (عليه السلام) اليهم وقال لهم: إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر...
فقال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال شمر: ما ترى أنت؟ أنت الأمير والرأي رأيك، فقال عمر بن سعد: قد أردت أن لا أكون ، ثم أقبل على الناس وقال لهم: ما ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج: سبحان الله، والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم اليها..
فجاء رسول عمر بن سعد الى الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: إنّا قد أجّلناكم الى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم الى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم...
فجمع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه واهل بيته بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: اللهم لك الحمد على ما علمتنا من القرآن، وفقهتنا في الدين، وأكرمتنا به من قرابة رسولك محمد (صلى الله عليه وآله)وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة،فأجعلنا من الشاكرين،أما بعد:فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا أصلح ولا خير من أصحابي،ولا أعلم أهل بيت أبر وأوصل وأفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً، إن هؤلاء القوم يطلبونني ولا يطلبون أحد منكم، ولو قد أصابوني وقدروا على قتلي لما طالبوكم أبداً.. فأنطلقوا جميعاً ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فقوموا واتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أخوتي وتفرقوا في سواد الليل، وذروني وهؤلاء القوم...
فقام العباس بن علي (عليه السلام) وقال: لم نفعل، لنبقى معك؟ لا أرانا الله ذلك، وهنا علت صيحة أصحاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيته بالقول نفسه، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم، فقالوا له: فما يقول الناس؟ تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ذلك ولكن نفديك انفسنا وأموالنا وأهلونا... ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك..
وفي اليوم العاشر من المحرم لما رأى العباس (عليه السلام) وحدة أخيه الحسين (عليه السلام) بعد استشهاد أصحابه وأهل بيته فقال للإمام الحسين (عليه السلام) : أخي هل من رخصة؟ فبكى الإمام الحسين (عليه السلام) حتى ابتلت لحيته بالدمع، وقال له: أخي أنت العلامة من عسكري، وأنت مجمع عددنا، وأنت حامل لوائي، فإذا غدوت يؤول جمعنا الى الشتات، وعمارتنا الى الخراب، فقال العباس (عليه السلام) :
فداك روح أخيك يا سيدي، لقد ضاق صدري من الحياة الدنيا، وأيد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين...
فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : إذا غدوت الى الجهاد فأطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء، فأخذ القربة وانطلق اليهم...
ونادى: يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء، قد أحرق الظمأ قلوبهم، وساد صمت رهيب على قوات عمر بن سعد، ووجم الكثيرون، فرد شمر بن ذي الجوشن :
يا بن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كله ماء، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد، فرجع الى أخيه الإمام الحسين(عليه السلام) فأخبره بردهم،فسمع الأطفال ينادون:العطش، العطش.... فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد الفرات وهو يقول:
أقــــسمتُ بالله الأعز الأعـــظم وبالحــــجون صادقاً وزمزم
وذو الحطيم والفــــنا الـــمحرم ليخضبن اليوم جسمي بدمي
دون الـحسين ذي الفـخار الأقدم إمام أهل الفــــــضل والتكرم
وتكالبوا عليه كالسيل الجارف وهو يضرب فيهم ويقول:
لا أرهبُ الموت إذا الــــموت زقا حتى أوارى في المصاليت لقا
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا ولا أخاف طارقاً إذ أطـــــرقا
بل أضرب الهام وأفري المــفرقا إني أنا العباس أغدو بالسقــــا
ولا اخاف الموت عن الملتقى
وقطعوا الطريق عليه الى الشريعة، فنزل عليهم كالصاعقة، فكشفهم عنها وكانوا أربعة آلاف، وهو يقول:-
أقاتــل القـــوم بقلب مهتد أذبُّ عن سبط الــــنبي أحمد
أضربكم بالصارم المهند حتى تحيدوا عن قتال سيدي
إني أنا العباس ذو التودد نجل علي المرتضـى المؤيد
فانهزم القوم من امامه، فأقحم العباس (عليه السلام) فرسه بالفرات، وقد أجهده القتال ونال منه العطش ففت كبده، وأخذ يملأ القربة، ومد يده الى الماء فأغترف غرفة، فتذكر عطش إمامه الحسين (عليه السلام) وعياله فرمى الماء من يده وهو يقول:
يا نفس من بعد الحسين هـوني فبعده لا كنت أن تكوني
هذا حســــين وارد الـــمنــــون وتشربين بارد المـــعين
هيهات ما هــــذا فعــــال ديني ولا فعال صادق اليــقين
وحمل القربة وعاد مسرعاً الى معسكر اخيه الإمام الحسين (عليه السلام) فكمّن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، فضربه على يمينه فبراها فأخذ اللواء بشماله وهو يقول:-
والله إن قطعتم يمـــيني إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين
نبي صدق جاءنا بالدين مصدقاً بالواحـــــد الأمين
وقاتل العباس (عليه السلام) حتى ضعف من كثرة الجراح، وشدة النزف،وكمّن له حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي من وراء نخلة، فضربه على شماله فبراها من الزند، فسقط لواء سيد الشهداء (عليه السلام) مع يده اليسرى، وحمل القربة بأسنانه خوفاً عليها من السقوط، وكان يقول:-
يا نفس لا تخشي من الكفار وأبشري برحمــــة الجبار
مع النبي الســــيد المخـــتار وجملة السادات والأطهار
قد قطعوا ببغيهــــم يساري فأصلهم يا ربّ حــرّ النار
وأراد أن يوصل القربة الى عطاشى أهل البيت، لكنهم قطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب، فجاء سهم وأصاب القربة فأُريق مائها، وجاء سهم آخر فأصابه في عينه، وضربه حكيم بن الطفيل بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته وانقلب عن فرسه وصاح: أدركني يا أخي...
وأنقض الإمام الحسين (عليه السلام) كالنجم الثاقب قائلاً: وا اخاه.. وا عباساه.. وا مهجة قلباه... ففرقهم عنه وقتل منهم الكثير، ونزل اليه فوجده مطروحاً جنب الشريعة مجروحاً عطشاناً قطيع الكفين مبضع الجسد، فبكى بكاءً شديداً، وقال (عليه السلام) : الآن أنكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي، جزاك الله من أخ خيراً، لقد جاهدت في الله حق جهاده...
وعاد الإمام الحسين (عليه السلام) الى معسكره فرأته ابنته سكينة مقبلاً فأخذت بعنان جواده وقالت: أين عمي العباس؟ أراه أبطأ بالماء؟ فقال لها: إن عمك العباس قُتل.. فسمعت زينب(عليها السلام) فصاحت : وا أخاه.. وا عباساه.. وا ضيعتنا من بعدك... وبكت النسوة وبكى الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل، وأنشد يقول:
أخي يا نور عيني يا شـــــقيقي فلي قد كنت كالركن الوثــــيق
أيا ابن أبي نصحت اخاك حتى سقاك الله كأساً من رحــــيـــق
أيا قمراً مــنيراً كنـــت عونـي على كل النوائب في المضيــق
فبعدك لا تطيـــب لنـــا حيــــاة سنجمع في الغداة على الحقيق
ألا لله شكوائــــي وصـــبــري وما ألـــقاه من ظمأ وضيــــق
وسنوافيكم بتفاصيل اخرى في كتاب لاحقا عن العباس بن علي (عليه السلام)