الجشعمي
25-02-2011, 08:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين .
أما بعد
من محاسن شريعة الإسلام المباركة، رعايتها للأنساب، وعنايتها بالحفاظ عليها، ومن مظاهر ذلك تشوفها إلى ثبوت النسب ودوامه، وتسهيلها في إثباته بأدنى الأسباب وأيسرها، وتشديدها في نفيه وإبطاله متى ثبت بأحد الطرق المشروعة، حيث لا تقبل الشريعة الإسلامية نفي النسب بعد ثبوته مهما كان الحامل عليه أو الداعي إليه، إلا عن طريق واحد وهو اللعان.
قال ابن قدامة: (فإن النسب يحتاط لإثباته ويثبت بأدنى دليل، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه، وأنه لا ينتفي إلا بأقوى دليل) [المغني، ابن قدامة المقدسي، (5/769)].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب؛ من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافيًا في ثبوته ...) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(201)].
البينة الطرق الشرعية لإثبات النسب
المراد بها الشهادة، فإن النسب يثبت لمدعيه بناء على شهادة العدول بصحة ما ادعاه ، وقد أجمع العلماء على أن النسب يثبت لمدعيه بشهادة رجلين عدلين، واختلفوا في إثباته بغير ذلك: كشهادة رجل وامرأتين، أو شهادة أربعة نساء عدول، أو شهادة رجل ويمين المدعي، حيث قال بكل حالة من هذه الحالات طائفة من العلماء، غير أن مذهب جماهير أهل العلم، وهم المالكية والشافعية والحنابلة، أنه لا يقبل في إثبات النسب بالشهادة إلا شهادة رجلين عدلين [انظر: الهداية شرح البداية، علي بن أبي بكر المرغيناني، (1/117)، والخراشي على خليل، (7/200)، والمهذب، أبو إسحاق الفيروز أبادي، (2/334)، والمقنع مع الشرح الكبير, والإنصاف، موفق الدين ابن قدامة وشمس الدين ابن قدامة والمرداوي، (30/15)، والمحلي، ابن حزم، (9/359)، وثبوت النسب، ص(192)].
وتفصيل ذلك في المذاهب الأربعة كما يلي :
- أولاً: عند الحنفية :
اشترط الحنفية لقبول الشهادة بالتسامع [ أي الاستفاضة] أن يكون النسب مشهورا.
جاء في الفتاوى الهندية: الشهادة بالشهرة في النسب وغيره بطريقتين: الحقيقية والحكمية.
أ) الحقيقية : أن تشتهر وتسمع من قوم كثير لا يتصور تواطؤهم على الكذب، ولا تشترط في هذه العدالة، ولا لفظ الشهادة بل يشترط التواتر.
ب) الحكمية : أن يشهد عنده رجلان أو رجل وامرأتان عدول بلفظ الشهادة.
فإذا لقي رجلين عدلين شهدا على نسبه وعرفا حاله وسعه أن يشهد.
ولو أن رجلا نزل بين ظهراني قوم وهم لا يعرفونه وقال: أنا فلان بن فلان، لا يسعهم أن يشهدوا على نسبه حتى يلقوا من أهل بلده رجلين عدلين فيشهدان عندهم على نسبه.
- ثانياً: عند المالكية :
الشهادة على السماع عند مالك وأصحابه جائزة في النسب المشهور المستفيض حصراً.
لكن ابن القاسم يرى أنه لا يثبت بذلك نسب، إنما يستحق به المال، إلا أن يكون أمرا مشتهرا مثل شهرة: " نافع مولى ابن عمر ".
- ثالثاً : عند الشافعية :
اشترط الشافعية استفاضة الشهرة؛ لأن النسب أمر لا مدخل للرؤية فيه، وغاية الممكن رؤية الولادة على الفراش.
لكن النسب إلى الأجداد المتوفين والقبائل القديمة لا تتحقق فيه الرؤية، فدعت الحاجة إلى اعتماد الاستفاضة ، ولو من الأم قياسا على الأب.
وذكر النووي أن مما تجوز فيه الشهادة بالتسامع - وهو الاستفاضة - النسب، وقال: يجوز أن يشهد بالتسامع أن هذا الرجل ابن فلان، أو هذه المرأة - إذا عرفها بعينها - بنت فلان، أو أنهما من قبيلة كذا. ويثبت النسب من الأم بالتسامع أيضا على الأصح، وقيل: قطعا كالأب، ووجه المنع إمكان رؤية الولادة.
وينبغي في صفة التسامع أن يسمع الشاهد المشهود بنسبه، فينسب إلى ذلك الرجل أو القبيلة، والناس ينسبونه إليه.
والراجح أن المعتبر في الاستفاضة عند الشافعية أنه يشترط أن يسمعه من جمع كثير يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم ويؤمن تواطؤهم على الكذب. قاله النووي والماوردي وهو المفهوم من كلام الشافعي.
رابعاً : عند الحنابلة :
قال الحنابلة مثل الشافعية باشتراط عدد من الشهود أو الاستفاضة بالنسبة للنسب.
جاء في المغني : وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به، وهو ما يعلمه بالاستفاضة، وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة. وكلام أحمد والخرقي يقتضي ألا تتحقق الاستفاضة حتى تكثر به الأخبار ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم.
انظر إلى حاشية ابن عابدين 4 / 375، والفتاوى الهندية 3 / 458، وبدائع الصنائع 6 / 266، 267، ومواهب الجليل 6 / 194، وبلغة السالك 2 / 362 وما بعدها، والقوانين الفقهية لابن جزي 205، وتبصرة الحكام 1 / 349، والكافي لابن عبد البر 2 / 903 ـ 906، وتهذيب الفروق 4 / 101، 102، وجواهر الإكليل 2 / 242، 243، والتاودي مع التسولي على تحفة ابن العاصم 1 / 132 وما بعدها، وروضة الطالبين 11 / 266، وما بعدها، والمغني مع الشرح الكبير 12 24/ .
الإستفاظة في النسب
فتوى الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء حول الإستفاظة في النسب أنها معتبرة شرعا بقوله ( ولا يخفى أن أهل العلم مجمعون على أن الاستفاضة في النسب معتبرة شرعا ولها حقها في القبول والثبوت والإثبات )
قال الحافظ السخاوي - رحمه الله - : " ثم إن مما يثبت بالاستفاضة النسب " .
( استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم وذؤي الشرف ) (2|633) .
وفي ( المغني لابن قدامة ) كتاب الشهادات مسألة الشهادة على النسب والولادة
مسألة: الجزء العاشر
( 8354 ) مسألة ; قال : ( وما تظاهرت به الأخبار ، واستقرت معرفته في قلبه ، شهد به ، كالشهادة على النسب والولادة ) هذا النوع الثاني من السماع ، وهو ما يعلمه بالاستفاضة . وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة . قال ابن المنذر : أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه ، ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به ، إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ، ولا تمكن المشاهدة فيه ، ولو اعتبرت المشاهدة ، لما عرف أحد أباه ، ولا أمه ، ولا أحدا من أقاربه . وقال : قال الله تعالى : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } .
واختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة ، غير النسب والولادة ، فقال أصحابنا : هو تسعة أشياء ; النكاح ، والملك المطلق ، والوقف ، ومصرفه ، والموت ، والعتق ، والولاء ، والولاية ، والعزل . وبهذا قال أبو سعيد الإصطخري ، وبعض أصحاب الشافعي . وقال بعضهم : لا تجوز في الوقف والولاء والعتق والزوجية ; [ ص: 165 ] لأن الشهادة ممكنة فيه بالقطع ، فإنها شهادة بعقد ، فأشبه سائر العقود .
وقال أبو حنيفة : لا تقبل إلا في النكاح ، والموت ، ولا تقبل في الملك المطلق ; لأنها شهادة بمال ، أشبه الدين . وقال صاحباه : تقبل في الولاء ، مثل عكرمة مولى ابن عباس . ولنا ، أن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها ، أو مشاهدة أسبابها ، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب . قال مالك : ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع . وقال مالك : السماع في الأحباس والولاء جائز . وقال أحمد ، في رواية المروذي : اشهد أن دار بختان لبختان ، وإن لم يشهدك .
وقيل له : تشهد أن فلانة امرأة فلان ، ولم تشهد النكاح ؟ فقال : نعم ، إذا كان مستفيضا ، فأشهد أقول : إن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خديجة وعائشة زوجاه ، وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة . فإن قيل : يمكنه العلم في هذه الأشياء بمشاهدة السبب . قلنا : وجود السبب لا يفيد العلم بكونه سببا يقينا ، فإنه يجوز أن يشتري ما ليس بملك البائع ، ويصطاد صيدا صاده غيره ، ثم انفلت منه ، وإن تصور ذلك ، فهو نادر وقول أصحاب الشافعي : تمكن الشهادة في الوقف باللفظ . لا يصح ; لأن الشهادة ليست بالعقود هاهنا ، وإنما يشهد بالوقف الحاصل بالعقد ، فهو بمنزلة الملك ، وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد ، وكذلك الحرية والولاء ، وهذه جميعها لا يمكن القطع بها ، كما لا يمكن القطع بالملك ; لأنها مترتبة على الملك ، فوجب أن تجوز الشهادة فيها بالاستفاضة ، كالملك سواء .
قال مالك ليس عندنا من شهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على السماع . إذا ثبت هذا ، فكلام أحمد والخرقي ، يقتضي أن لا يشهد بالاستفاضة حتى تكثر به الأخبار ، ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم ; لقول الخرقي : فيما تظاهرت به الأخبار ، واستقرت معرفته في القلب . يعني حصل العلم به . وذكر القاضي ، في " المجرد " أنه يكفي أن يسمع من اثنين عدلين ، ويسكن قلبه إلى خبرهما ; لأن الحقوق تثبت بقول اثنين . وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي . والقول الأول هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة ، فإنها مأخوذة من فيض الماء ; لكثرته ، ولأنه لو اكتفي فيه بقول اثنين ، لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع .
البرهان الذي يقيمه من ادعى نسباً إلى رسول الله ( محمد مختار الشنقيطي ) في " شرح زاد المستقنع "
(( مسألة النسب تارة تكون من رجل يدعي نسبة ولدٍ إليه، وتارة تكون من ولدٍ يدعي النسبة إلى رجلٍ آخر ويقول: إنه والده، وقد يدعي ذلك في حال حياة الشخص، ويطالب بإثبات نسبه إلى ذلك الشخص، وتارة يدعي ذلك بعد موته، وقد تحصل الدعوى لشيءٍ عظيمٍ كريم كأن يدعي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الأنصار وغيرهم ممن لهم فضل ومكان، والأصل أن الناس مؤتمنون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف، فإن من ادعى الشرف والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى من لهم الفضل كالأنصار ونحوهم ممن لهم حق في الإسلام فإنه لا تقبل منه الدعوى مجردة، لكن لو كان يعلم بشهادة العدول منقرابته الذين يأتمنهم في دينه، حيث قالوا له: نحن من آل البيت، أو عندنا ما يثبت أننا من آل البيت، فإن من حقه أن يبني على شهادة من يثق بهم. فلا يقبل من أحد أن يدعي النسب والشرف إلا أذا أثبت، والإثبات يكون بالشجرة -كما هو معلوم- التي يعرفها أهل الخبرة، ويكون بشهادة العدول أن فلاناً من آل فلان، ويكون آل فلان قد ثبت نسبتهم إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون الإثبات بما يسميه العلماء: شهادة السماع، وشهادة السماع هي: أن يعرف بين الناس أن البيت الفلاني أو الفخذ الفلاني أو القبيلة الفلانية تنسب إلى كذا وكذا، فإذا اشتهر بين الناس أن هذا البيت من آل البيت فإنه يلحق ويحكم بثبوت نسبه بهذه الشهادة، وهذه التي يسميها العلماء: شهادة السماع، يعني يتسامع الناس في بيئة أو حي أو قبيلة أو جماعة بأن بني فلان من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بني فلان من آل البيت، فيحكم بهذه الشهادة. وقد ذكر غير واحد من العلماء رحمهم الله أن شهادة السماع حجة في النسب، وشهادة السماع هي أن يستفيض في البيئة أو المجتمع أو بين الناس الذي يعيش بينهم نسبة هذه الجماعة أو هذا الفرد إلى تلك الجماعة وحينئذٍ يحكم بهذا ويعمل به، كما هو معلوم في باب الشهادات )) .
الناس مؤتمنون على أنسابهم
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : أُثر عن الإمام مالك رحمه الله قول : "الناسُ مُؤْتَمَنُونَ على أنسابهم" ، فهل هذا يعني عدم تكذيب من نَسَبَ نفسه إلى قبيلة معينة ؛ لأنه هو المَعْنِيُّ بذلك وحده ؟
فأجاب :
إذا اشتهر أن هذا الرجل ينتسب إلى القبيلة الفلانية : فلا حاجة إلى إقامة بيِّنة خاصة ؛ لأن الاشتهار في هذا يكفي ، فهو من الأمور التي يُشهَد عليها بالاستفاضة .
نقلها الشيخ خالد الجريسي في كتابه "العصبية القبلية من المنظور الإسلامي" (132) .
وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله السؤال السابق – فأجاب :
معنى كلامه رحمه الله – يعني : الإمام مالكاً - أن الإنسان إذا انتسب إلى قبيلة ، وانتمى إليها فإنه يقبل ذلك منه ، إذا كان محل ثقة ، وصدق ، وأمانة ، ولا يشترط موافقة جميع تلك القبيلة لفقد يكون ممن نزح عنها ، وقد بقي متمسكًا بنسَبه ، حتى يعرف من هو أقرب إليه في الميراث والولاء ونحو ذلك ، فإذا تسمّى إنسانٌ بأنه من قبيلة بني فلان : فإنه مأمونٌ على نفسه ، ما لم يكن هناك دليل على خطئه ونحوه .
المصدر السابق (136) نقلاً عن "الفتاوى الشرعية في المسائل العصرية" (1460 ، 1461) .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين .
أما بعد
من محاسن شريعة الإسلام المباركة، رعايتها للأنساب، وعنايتها بالحفاظ عليها، ومن مظاهر ذلك تشوفها إلى ثبوت النسب ودوامه، وتسهيلها في إثباته بأدنى الأسباب وأيسرها، وتشديدها في نفيه وإبطاله متى ثبت بأحد الطرق المشروعة، حيث لا تقبل الشريعة الإسلامية نفي النسب بعد ثبوته مهما كان الحامل عليه أو الداعي إليه، إلا عن طريق واحد وهو اللعان.
قال ابن قدامة: (فإن النسب يحتاط لإثباته ويثبت بأدنى دليل، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه، وأنه لا ينتفي إلا بأقوى دليل) [المغني، ابن قدامة المقدسي، (5/769)].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب؛ من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافيًا في ثبوته ...) [الطرق الحكمية، ابن القيم، ص(201)].
البينة الطرق الشرعية لإثبات النسب
المراد بها الشهادة، فإن النسب يثبت لمدعيه بناء على شهادة العدول بصحة ما ادعاه ، وقد أجمع العلماء على أن النسب يثبت لمدعيه بشهادة رجلين عدلين، واختلفوا في إثباته بغير ذلك: كشهادة رجل وامرأتين، أو شهادة أربعة نساء عدول، أو شهادة رجل ويمين المدعي، حيث قال بكل حالة من هذه الحالات طائفة من العلماء، غير أن مذهب جماهير أهل العلم، وهم المالكية والشافعية والحنابلة، أنه لا يقبل في إثبات النسب بالشهادة إلا شهادة رجلين عدلين [انظر: الهداية شرح البداية، علي بن أبي بكر المرغيناني، (1/117)، والخراشي على خليل، (7/200)، والمهذب، أبو إسحاق الفيروز أبادي، (2/334)، والمقنع مع الشرح الكبير, والإنصاف، موفق الدين ابن قدامة وشمس الدين ابن قدامة والمرداوي، (30/15)، والمحلي، ابن حزم، (9/359)، وثبوت النسب، ص(192)].
وتفصيل ذلك في المذاهب الأربعة كما يلي :
- أولاً: عند الحنفية :
اشترط الحنفية لقبول الشهادة بالتسامع [ أي الاستفاضة] أن يكون النسب مشهورا.
جاء في الفتاوى الهندية: الشهادة بالشهرة في النسب وغيره بطريقتين: الحقيقية والحكمية.
أ) الحقيقية : أن تشتهر وتسمع من قوم كثير لا يتصور تواطؤهم على الكذب، ولا تشترط في هذه العدالة، ولا لفظ الشهادة بل يشترط التواتر.
ب) الحكمية : أن يشهد عنده رجلان أو رجل وامرأتان عدول بلفظ الشهادة.
فإذا لقي رجلين عدلين شهدا على نسبه وعرفا حاله وسعه أن يشهد.
ولو أن رجلا نزل بين ظهراني قوم وهم لا يعرفونه وقال: أنا فلان بن فلان، لا يسعهم أن يشهدوا على نسبه حتى يلقوا من أهل بلده رجلين عدلين فيشهدان عندهم على نسبه.
- ثانياً: عند المالكية :
الشهادة على السماع عند مالك وأصحابه جائزة في النسب المشهور المستفيض حصراً.
لكن ابن القاسم يرى أنه لا يثبت بذلك نسب، إنما يستحق به المال، إلا أن يكون أمرا مشتهرا مثل شهرة: " نافع مولى ابن عمر ".
- ثالثاً : عند الشافعية :
اشترط الشافعية استفاضة الشهرة؛ لأن النسب أمر لا مدخل للرؤية فيه، وغاية الممكن رؤية الولادة على الفراش.
لكن النسب إلى الأجداد المتوفين والقبائل القديمة لا تتحقق فيه الرؤية، فدعت الحاجة إلى اعتماد الاستفاضة ، ولو من الأم قياسا على الأب.
وذكر النووي أن مما تجوز فيه الشهادة بالتسامع - وهو الاستفاضة - النسب، وقال: يجوز أن يشهد بالتسامع أن هذا الرجل ابن فلان، أو هذه المرأة - إذا عرفها بعينها - بنت فلان، أو أنهما من قبيلة كذا. ويثبت النسب من الأم بالتسامع أيضا على الأصح، وقيل: قطعا كالأب، ووجه المنع إمكان رؤية الولادة.
وينبغي في صفة التسامع أن يسمع الشاهد المشهود بنسبه، فينسب إلى ذلك الرجل أو القبيلة، والناس ينسبونه إليه.
والراجح أن المعتبر في الاستفاضة عند الشافعية أنه يشترط أن يسمعه من جمع كثير يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم ويؤمن تواطؤهم على الكذب. قاله النووي والماوردي وهو المفهوم من كلام الشافعي.
رابعاً : عند الحنابلة :
قال الحنابلة مثل الشافعية باشتراط عدد من الشهود أو الاستفاضة بالنسبة للنسب.
جاء في المغني : وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به، وهو ما يعلمه بالاستفاضة، وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة. وكلام أحمد والخرقي يقتضي ألا تتحقق الاستفاضة حتى تكثر به الأخبار ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم.
انظر إلى حاشية ابن عابدين 4 / 375، والفتاوى الهندية 3 / 458، وبدائع الصنائع 6 / 266، 267، ومواهب الجليل 6 / 194، وبلغة السالك 2 / 362 وما بعدها، والقوانين الفقهية لابن جزي 205، وتبصرة الحكام 1 / 349، والكافي لابن عبد البر 2 / 903 ـ 906، وتهذيب الفروق 4 / 101، 102، وجواهر الإكليل 2 / 242، 243، والتاودي مع التسولي على تحفة ابن العاصم 1 / 132 وما بعدها، وروضة الطالبين 11 / 266، وما بعدها، والمغني مع الشرح الكبير 12 24/ .
الإستفاظة في النسب
فتوى الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء حول الإستفاظة في النسب أنها معتبرة شرعا بقوله ( ولا يخفى أن أهل العلم مجمعون على أن الاستفاضة في النسب معتبرة شرعا ولها حقها في القبول والثبوت والإثبات )
قال الحافظ السخاوي - رحمه الله - : " ثم إن مما يثبت بالاستفاضة النسب " .
( استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم وذؤي الشرف ) (2|633) .
وفي ( المغني لابن قدامة ) كتاب الشهادات مسألة الشهادة على النسب والولادة
مسألة: الجزء العاشر
( 8354 ) مسألة ; قال : ( وما تظاهرت به الأخبار ، واستقرت معرفته في قلبه ، شهد به ، كالشهادة على النسب والولادة ) هذا النوع الثاني من السماع ، وهو ما يعلمه بالاستفاضة . وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة . قال ابن المنذر : أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه ، ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به ، إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ، ولا تمكن المشاهدة فيه ، ولو اعتبرت المشاهدة ، لما عرف أحد أباه ، ولا أمه ، ولا أحدا من أقاربه . وقال : قال الله تعالى : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } .
واختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة ، غير النسب والولادة ، فقال أصحابنا : هو تسعة أشياء ; النكاح ، والملك المطلق ، والوقف ، ومصرفه ، والموت ، والعتق ، والولاء ، والولاية ، والعزل . وبهذا قال أبو سعيد الإصطخري ، وبعض أصحاب الشافعي . وقال بعضهم : لا تجوز في الوقف والولاء والعتق والزوجية ; [ ص: 165 ] لأن الشهادة ممكنة فيه بالقطع ، فإنها شهادة بعقد ، فأشبه سائر العقود .
وقال أبو حنيفة : لا تقبل إلا في النكاح ، والموت ، ولا تقبل في الملك المطلق ; لأنها شهادة بمال ، أشبه الدين . وقال صاحباه : تقبل في الولاء ، مثل عكرمة مولى ابن عباس . ولنا ، أن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها ، أو مشاهدة أسبابها ، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب . قال مالك : ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع . وقال مالك : السماع في الأحباس والولاء جائز . وقال أحمد ، في رواية المروذي : اشهد أن دار بختان لبختان ، وإن لم يشهدك .
وقيل له : تشهد أن فلانة امرأة فلان ، ولم تشهد النكاح ؟ فقال : نعم ، إذا كان مستفيضا ، فأشهد أقول : إن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خديجة وعائشة زوجاه ، وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة . فإن قيل : يمكنه العلم في هذه الأشياء بمشاهدة السبب . قلنا : وجود السبب لا يفيد العلم بكونه سببا يقينا ، فإنه يجوز أن يشتري ما ليس بملك البائع ، ويصطاد صيدا صاده غيره ، ثم انفلت منه ، وإن تصور ذلك ، فهو نادر وقول أصحاب الشافعي : تمكن الشهادة في الوقف باللفظ . لا يصح ; لأن الشهادة ليست بالعقود هاهنا ، وإنما يشهد بالوقف الحاصل بالعقد ، فهو بمنزلة الملك ، وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد ، وكذلك الحرية والولاء ، وهذه جميعها لا يمكن القطع بها ، كما لا يمكن القطع بالملك ; لأنها مترتبة على الملك ، فوجب أن تجوز الشهادة فيها بالاستفاضة ، كالملك سواء .
قال مالك ليس عندنا من شهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على السماع . إذا ثبت هذا ، فكلام أحمد والخرقي ، يقتضي أن لا يشهد بالاستفاضة حتى تكثر به الأخبار ، ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم ; لقول الخرقي : فيما تظاهرت به الأخبار ، واستقرت معرفته في القلب . يعني حصل العلم به . وذكر القاضي ، في " المجرد " أنه يكفي أن يسمع من اثنين عدلين ، ويسكن قلبه إلى خبرهما ; لأن الحقوق تثبت بقول اثنين . وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي . والقول الأول هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة ، فإنها مأخوذة من فيض الماء ; لكثرته ، ولأنه لو اكتفي فيه بقول اثنين ، لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع .
البرهان الذي يقيمه من ادعى نسباً إلى رسول الله ( محمد مختار الشنقيطي ) في " شرح زاد المستقنع "
(( مسألة النسب تارة تكون من رجل يدعي نسبة ولدٍ إليه، وتارة تكون من ولدٍ يدعي النسبة إلى رجلٍ آخر ويقول: إنه والده، وقد يدعي ذلك في حال حياة الشخص، ويطالب بإثبات نسبه إلى ذلك الشخص، وتارة يدعي ذلك بعد موته، وقد تحصل الدعوى لشيءٍ عظيمٍ كريم كأن يدعي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الأنصار وغيرهم ممن لهم فضل ومكان، والأصل أن الناس مؤتمنون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف، فإن من ادعى الشرف والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى من لهم الفضل كالأنصار ونحوهم ممن لهم حق في الإسلام فإنه لا تقبل منه الدعوى مجردة، لكن لو كان يعلم بشهادة العدول منقرابته الذين يأتمنهم في دينه، حيث قالوا له: نحن من آل البيت، أو عندنا ما يثبت أننا من آل البيت، فإن من حقه أن يبني على شهادة من يثق بهم. فلا يقبل من أحد أن يدعي النسب والشرف إلا أذا أثبت، والإثبات يكون بالشجرة -كما هو معلوم- التي يعرفها أهل الخبرة، ويكون بشهادة العدول أن فلاناً من آل فلان، ويكون آل فلان قد ثبت نسبتهم إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون الإثبات بما يسميه العلماء: شهادة السماع، وشهادة السماع هي: أن يعرف بين الناس أن البيت الفلاني أو الفخذ الفلاني أو القبيلة الفلانية تنسب إلى كذا وكذا، فإذا اشتهر بين الناس أن هذا البيت من آل البيت فإنه يلحق ويحكم بثبوت نسبه بهذه الشهادة، وهذه التي يسميها العلماء: شهادة السماع، يعني يتسامع الناس في بيئة أو حي أو قبيلة أو جماعة بأن بني فلان من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بني فلان من آل البيت، فيحكم بهذه الشهادة. وقد ذكر غير واحد من العلماء رحمهم الله أن شهادة السماع حجة في النسب، وشهادة السماع هي أن يستفيض في البيئة أو المجتمع أو بين الناس الذي يعيش بينهم نسبة هذه الجماعة أو هذا الفرد إلى تلك الجماعة وحينئذٍ يحكم بهذا ويعمل به، كما هو معلوم في باب الشهادات )) .
الناس مؤتمنون على أنسابهم
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : أُثر عن الإمام مالك رحمه الله قول : "الناسُ مُؤْتَمَنُونَ على أنسابهم" ، فهل هذا يعني عدم تكذيب من نَسَبَ نفسه إلى قبيلة معينة ؛ لأنه هو المَعْنِيُّ بذلك وحده ؟
فأجاب :
إذا اشتهر أن هذا الرجل ينتسب إلى القبيلة الفلانية : فلا حاجة إلى إقامة بيِّنة خاصة ؛ لأن الاشتهار في هذا يكفي ، فهو من الأمور التي يُشهَد عليها بالاستفاضة .
نقلها الشيخ خالد الجريسي في كتابه "العصبية القبلية من المنظور الإسلامي" (132) .
وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله السؤال السابق – فأجاب :
معنى كلامه رحمه الله – يعني : الإمام مالكاً - أن الإنسان إذا انتسب إلى قبيلة ، وانتمى إليها فإنه يقبل ذلك منه ، إذا كان محل ثقة ، وصدق ، وأمانة ، ولا يشترط موافقة جميع تلك القبيلة لفقد يكون ممن نزح عنها ، وقد بقي متمسكًا بنسَبه ، حتى يعرف من هو أقرب إليه في الميراث والولاء ونحو ذلك ، فإذا تسمّى إنسانٌ بأنه من قبيلة بني فلان : فإنه مأمونٌ على نفسه ، ما لم يكن هناك دليل على خطئه ونحوه .
المصدر السابق (136) نقلاً عن "الفتاوى الشرعية في المسائل العصرية" (1460 ، 1461) .