الجشعمي
04-07-2010, 10:22 PM
إنَّ القلاقل المتواصلة والمتصاعدة في الوطن العربي، والفتن الفتاكة التي انفجرت في العقود الأخيرة داخل العديد من الأقطار العربية، وتصاعد الأعمال الإرهابية الطابع، لهي إشارات مهمة لأزمة نفسية جماعية كبيرة تعصف بمجتمعاتنا المختلفة.
تدلُّ أمثلة عديدة في التاريخ على أنّ الفتن والحروب الأهلية والأعمال الإرهابية عبثية الطابع تنتج عن أزمة في الهوية الجماعية وتفكّك عناصرها الرئيسية التي تلحم في العادة عناصر المجتمع المختلفة من ناحية أصولها العرقية والقبلية واللغوية والدينية والمذهبية والمنطقية وتجعلها تقبل نظام الحكم والتراتبية الاجتماعية الناتجة عنه.
وهذه كانت حالة الإمبراطورية الروسية القيصرية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, حيث إن تصاعد العمليات الإرهابية ضد رموز السلطة المدنية والعسكرية وضد الناس العاديين في بعض الأحيان، وذلك تحت تأثير عقائد عبثية مختلفة الأهواء، قد مهّد الطريق إلى انهيار السلطة القيصرية واستيلاء فئة قليلة من الشيوعيين على مقاليد الحكم. وهذه أيضًا كانت حالة أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حيث تعاظمت حركات التمرد المسلحة في دول عديدة وتزعزع استقرار الكيانات السياسية إلى درجة أن العسكر قاموا بانقلابات قاسية ووحشية في بعض الحالات مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، قضت على حرية الناس وأصبحت تزج في السجون - أو تقتل - آلافا من الأبرياء وتختطفهم بلا رجعة. ولاتزال في أمريكا اللاتينية بقع واسعة من حركات الرفض العبثية الطابع كما في البيرو وكولومبيا، مما يؤدي إلى قلاقل مستمرة وأعمال حربية وخطف وقتل الأبرياء في هذين البلدين.
مجازر جماعية
ويمكن أيضًا أن نذكر ما حصل في كمبوديا من جرّاء زعزعة الكيان السياسي الكمبودي خلال الحرب الأمريكية ضد فيتنام، مما أدى إلى مجزرة جماعية رهيبة على يد حكم الخمير الحمر أودت بحياة ثلاثة ملايين نسمة. وفي الماضي القريب كيف لا نذكر حالات الهستيريا الجماعية التي سيطرت على مكونات المجتمع اليوجوسلافي وأدّت إلى حروب شعواء بين الأقاليم اليوجوسلافية التي انفصلت عن الدولة المركزية على الرغم من التاريخ المشترك واللغة المشتركة (باستثناء حالة كوسوفو). كما أنه لابد من ذكر موجة الإرهاب داخل المجتمعات الغربية واليابان في الستينيات من القرن الماضي، وهي كانت نابعة من حركات ترفع راية الماركسية، تخطف وتقتل كبار رجال الأعمال والسياسة في مجتمعات عريقة كالمجتمع الإيطالي أو الألماني أو الفرنسي، وقد مثّلت هذه الموجة آخر مواقف الرفض لتطور النظام الرأسمالي وتوسيعه.
وعندما ننظر إلى كل هذه الأمثلة من العنف العبثي الطابع الذي حصل في مجتمعات مختلفة تمامًا عن مجتمعاتنا، نرى أن القسم المشترك بين ما يحصل لدينا وما حصل في مناطق أخرى من العالم هو انهيار نظام القيم الجماعي الذي يربط الناس بعضهم بعضا ويجعل تصرفاتهم تصرفات سلمية وطبيعية لا يشوبها التوتر وأعمال العنف في ما بينهم. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الأساسي حول سبب تراخي نظام القيم في مجتمعاتنا العربية إلى درجة أن تعدُّد أعمال العنف العبثية يؤدي إلى قتل المدنيين الأبرياء على يد حركات ترفع راية الدين في معظم الأحيان، كما حصل بشكل خاص في الجزائر وفي العراق على نطاق واسع، وكما يحصل من حين لآخر في لبنان والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن والمغرب على سبيل المثال. هذا بالإضافة إلى أعمال العنف لهذه الحركات في مجتمعات إسلامية أخرى مثل أفغانستان وباكستان وإندونيسيا.
هل هناك سمة مشتركة بين أزمة المجتمعات العربية وأزمة دول غير عربية إنّما إسلامية؟ نعتقد في هذا الخصوص أن القاسم المشترك بين المجتمعات الإسلامية العربية وغير العربية هو أزمة الهوية الجماعية وتحديد معالمها التي بدورها تسوغ نظام القيم المشتركة. وإذا أمكن تفهّم أزمات العنف في باكستان وإندونيسيا على أساس أن الانصهار القومي بين العناصر المختلفة المكوّنة لهذين المجتمعين لم يتم بالشكل الصحيح، وإذا أمكن تحليل الوضع الداخلي الأفغاني بغض النظر عن الاحتلالين السوفييتي والأمريكي على أنه حرب أهلية متواصلة بين جماعات قبلية وعرقية مختلفة، من دون نسيان انشطار دولة باكستان نفسها بعد عشر سنوات من الاستقلال إلى شطرين منفصلين بأخذ منطقة البنغال استقلالها عن دولة باكستان في بداية السبعينيات، فأزمة الهوية في الأقطار العربية تستدعي نوعًا آخر من التحليل.
أوجه متعددة.. ولا تمايز
صحيح أن المجتمعات العربية، كأي مجتمع آخر، تتميّز بتعددية ذات أوجه مختلفة (مناطقية وعشائرية)، غير أن التمايز العرقي واللغوي ليس موجودًا في المجتمعات العربية باستثناء الوجود الكردي في المشرق العربي والوجود الأمازيغي في المغرب العربي، بالإضافة إلى العنصر الأرمني في بعض دول المشرق وبشكل خاص سورية ولبنان هربًا من المجازر التي تعرّضوا لها على يد الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى. وإذا كانت القضية الكردية طرحت مشكلة حادة في العراق، فهي مشكلة تتعدى العراق نفسه تمتدّ إلى تركيا وإيران، فهي لم تؤدّ إلى أعمال إرهابية، بل إلى صراع عسكري مؤجّج بالتدخلات الخارجية، أما القضية الأمازيغية، فلا علاقة لها بتصاعد العمليات الإرهابية العبثية التي تجري في المغرب العربي.
المشكلة إذن هي عندنا كعرب أو مستعربين منذ قرون (الشعوب خارج الجزيرة العربية التي اعتمدت اللغة والثقافة العربية ويدين اغلبيتهم بالإسلام)، ويمكن تلخيصها في أننا لم نتفق يومًا على تحديد عناصر هويتنا. فقد تلوّنت القومية العربية الحديثة بـ «تلاوين» عديدة منذ ظهور الاتجاهات الأولى في القرن التاسع عشر لإبراز شخصية عربية جماعية بعد أن كانت قد طُمست هذه الشخصية منذ قرون عديدة عندما سيطر العنصر غير العربي (العجمي والتركي بشكل خاص) على بلاد العرب. وعندما انطلقت النهضة العربية الأولى في بدايات القرن التاسع عشر، بدأت شخصيات ثقافية عديدة من رجال دين ومدنيين بالتفكير في إعادة تكوين الهوية العربية بشكل مستقل عن نظام الحكم العثماني السائد حينذاك. والحقيقة أنّ الصراع الفكري قد بدأ منذ ذلك الحين بين أنصار قومية إسلامية تحافظ على اللحمة بين العرب وغير العرب من المسلمين، وبين تيار واسع يسعى إلى تأكيد خصوصية الشخصية العربية بالنسبة إلى سائر المجتمعات التي يسود فيها الدين الإسلامي. وقد تُرْجِم هذا الصراع في بدايات القرن العشرين في ظروف انهيار السلطنة العثمانية بتنافس زعامات سياسية عربية جديدة برزت على الساحة لوراثة الخلافة الإسلامية بعد إلغاء هذه المؤسسة في تركيا على يد مصطفى كمال.
وقد تعاظم على مر العقود الصراع بين تيارات فكرية تنشر قومية مركّزة بشكل حصري على الديانة، وقومية مركّزة بشكل محوري على الثقافة واللغة لتأمين تمايز العرب عن غيرهم من الشعوب الإسلامية. وقد أخذ الصراع طابعًا سياسيًا حادًا في ظل تنامي ما يمكن أن نسميه العصبيات القطرية العربية، كل واحدة منها مدّعية خصوصية ريادية لقيادة مسيرة العرب في النظام الدولي الحديث بعد زوال كل من الخلافة العثمانية والاستعمار الأوربي والتركي. وقد أدّى ذلك إلى صراعات هدامة شلت في معظم الأحيان العمل العربي المشترك والتضامن أمام التحديات المختلفة التي واجهها العرب بعد الاستقلال، سواء ما يتعلق بموقع العرب الجماعي في الحرب الباردة أو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وصدّ التوسع الإسرائيلي واحتلاله أراضي عربية مختلفة أو في مواجهة الثورة الإيرانية الخمينية.
منطقة فراغ
ومن جرّاء ذلك أصبحت المنطقة العربية منطقة فراغ القوة بفقدان التضامن بين أقطارها، مما استجلب مزيدا من التدخلات الخارجية في شئون العرب والدخول في أحلاف مع قوى خارجية تتصارع للهيمنة على المنطقة، خاصة في ظل تنامي المخزون النفطي الذي أصبح مدار أنظار العالم ومطامعه.
وإلى اليوم لم يحسم العرب قضية هويتهم الممزّقة بين العقيدة الدينية كإطار جامع ونظام قيم أي ما يمكن أن يُسمّى القومية الإسلامية، وبين مفهوم قومية عروبية متمحورة حول اللغة والثقافة ووحدة التاريخ والمصير، وأخيرًا بين عصبيات قطرية يلتف حولها المواطنون لدرء مخاطر الصراع بين النوعين من القومية، الذي يمزّق الأمة ويفقدها المناعة الداخلية والخارجية. وفي اعتقادنا أن نتيجة هذا الصراع الذي أخذ طابعًا سياسيًا حادًا، قد حال دون الوصول إلى أي نوع من التراكم المعرفي حول تاريخنا وأوضاعنا ونفسيتنا الجماعية بتلاوينها المختلفة والطبيعية وإلى المنظومة الفكرية والثقافية والسياسية العربية المتماسكة، يرتاح إليها العرب إلى أي قطر انتموا، وتسمح لهم بالتعبير عن التعددية سياسية الطابع من دون تعرُّض المجتمعات إلى الهزات والعنف بين أبناء القطر الواحد.
ومن جرّاء الصراعات الفكرية السياسية الطابع والمتناقضة في الوطن العربي، وعدم الوصول إلى حالات تنموية شاملة ومتسارعة في ظل ارتفاع متواصل في معدلات زيادة السكان، بقيت فئات واسعة من الشباب العربي في كل الأقطار العربية خارج قنوات الازدهار والبحبوحة وفرص العمل اللائقة والكافية بأعدادها لاستيعاب الملايين من المتخرجين من أنظمة التعليم. كما أنّ نظام القيم في المجتمعات العربية أصبح خاضعًا لتناقضات وتمزّقات حادة بين نظرات مختلفة إلى كل الأمور، سواء تعلّق الأمر بقواعد التصرف الأخلاقي المجتمعي أو بنوعية العلاقة مع القوى الخارجية غير العربية.
وبهذا التطور الخطير أصبح التوتر لا يسود فقط العلاقات بين الأنظمة العربية، إنّما أيضًا العلاقات داخل كل قطر عربي بين قوى اجتماعية وعقائدية مختلفة تعتمد أنظمة قيم متناقضة ما بين الانفتاح على قيم الحداثة على النمط الغربي والتمسّك المتحجّر بقيم الموروث الذي أخذ طابعًا دينيًا حادًا وجامدًا. وهذا بدوره ولّد توترًا إضافيًا بين الموروث الخاص لكل مذهب من المذاهب المتفرّعة عن الرسالة المحمدية الشريفة. فأصبحت الهوية الجماعية تتلوّن مذهبيًا وتخلق خط توتر جديدا داخل المجتمعات العربية القطرية، وبين العرب والعجم منذ أنْ بنت الثورة الإيرانية هويتها الجماعية بشكل حصري على قيم دينية.
الخروج على السيطرة
هل هناك من مخرج لهذا الوضع المضحك والمبكي والمأساوي في آن معًا؟
يمكن للإنسان العربي - إلى أي قطر انتمى - أن يشك في إمكان الخروج من هذه الحالة التي تشبه الملحمة الدراماتيكية والدموية في آن معًا، والتي لا يسيطر عليها أحد، بل تحرّكها ديناميكيات خرجت على السيطرة، سواء داخليًا أو بين الأقطار العربية أو في العلاقة مع الخارج، بأنواعها المختلفة، من توترات إضافية في المجتمعات العربية في ظل بسط العظمة العسكرية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة وفي ظل الخطاب الغربي الذي يبرّر هذه السياسة بأمراض المجتمعات العربية والإسلامية, التي تولّد حركات العنف العبثية وذلك من دون أن يفرّق الخطاب الغربي بين العنف العبثي الذي يصيب المدنيين الأبرياء داخل المجتمعات العربية أكثر مما يصيبهم في الدول الغربية نفسها من جهة، وبين أعمال المقاومة الشرعية للاحتلالات في العراق وفلسطين من جهة أخرى. مع الإشارة إلى الحالة اللبنانية حيث لاتزال إسرائيل لا تحترم السيادة اللبنانية ولا تعترف بسيادة لبنان على مزارع شبعا (وهي خزان مياه وموقع استراتيجي عسكري) ولم تكمل عملية تبادل الأسرى بين حركة المقاومة اللبنانية وإسرائيل.
وربّما أصبح المشهد العراقي المفجع يعكس ويكرّس كل هذه التوترات من فتنة مذهبية إلى مقاومة الجيش الأمريكي إلى حركات العنف العبثية التي تقتل المدنيين الأبرياء من أي مذهب كان. وهذا هو الوضع الذي يجعل من المواطن العربي - إلى أي قطر انتمى - غير مبالٍ أمام ضخامة المآسي، فيسعى إلى الحفاظ على نفسه وعائلته أو إلى الهجرة، سواء إلى دول مصدّرة للنفط في الخليج لما فيها من فورة اقتصادية ومالية عملاقة أم إلى الدول الصناعية الكبرى في أوربا وأمريكا وأستراليا. أمّا فئة المثقفين والمفكّرين العرب، فمعظم كتاباتهم لاتزال تصب في التيارات القومية المتناقضة المذكورة سابقًا من دون الخروج من الطريق المسدود والسعي إلى إعادة بناء ثقافة سياسية متجدّدة تتخطّى الانقسامات التي لا أفق لها، وتعمل من أجل التراكم المعرفي وتطوير المنظومة الفكرية والثقافية التي يمكن أن تولّد الراحة النفسية الجماعية في المجتمعات العربية.
ولذلك، لقد آن الأوان لنترك جانبًا نشر عقائد هوية جامدة وحادة ومبسّطة التي تولّد حالات الضيق النفسي والتوتر والفتن، أكانت مبنية على قومية وعصبية دينية أو مذهبية الطابع، أو ثقافية الطابع، أو نتيجة تطور عصبية قطرية حادة لكي نقوم بمراجعة ضمير نقدية تتناول كل هذه السلبيات الموصوفة هنا، وذلك لاستبيان طريق تفكير جديدة تفتح الآفاق بدلاً من أن تقفلها كما هو الحال الآن. وفي ماضينا، البعيد كما القريب -كعرب من أقطار مختلفة، أصبح كل واحدة منها واقعًا لا يمكن التغاضي عنه - مخزون ثمين من التفكير النيّر، دينيًا كان مصدره أم مدنيًا وفلسفيًا، والتجارب، ومنها المرّة ومنها البرّاقة، لكيْ نعيد إنتاج فكر إبداعي جديد ومتكيّف مع الزمن الحديث الذي نعيش فيه، والتحديات العملاقة التي علينا أن نواجهها بكل جرأة. لكن، لكيْ نواجه بفعالية التحديات لابدّ من أن يكون في أيدينا سلاح فكري فعّال يمكن أن يولّد واقعًا فكريًا مجتمعيًا جديدًا في كل قطر عربي، وتضامنًا بين الأقطار العربية في معمعة النظام الدولي الحالي.
تدلُّ أمثلة عديدة في التاريخ على أنّ الفتن والحروب الأهلية والأعمال الإرهابية عبثية الطابع تنتج عن أزمة في الهوية الجماعية وتفكّك عناصرها الرئيسية التي تلحم في العادة عناصر المجتمع المختلفة من ناحية أصولها العرقية والقبلية واللغوية والدينية والمذهبية والمنطقية وتجعلها تقبل نظام الحكم والتراتبية الاجتماعية الناتجة عنه.
وهذه كانت حالة الإمبراطورية الروسية القيصرية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, حيث إن تصاعد العمليات الإرهابية ضد رموز السلطة المدنية والعسكرية وضد الناس العاديين في بعض الأحيان، وذلك تحت تأثير عقائد عبثية مختلفة الأهواء، قد مهّد الطريق إلى انهيار السلطة القيصرية واستيلاء فئة قليلة من الشيوعيين على مقاليد الحكم. وهذه أيضًا كانت حالة أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حيث تعاظمت حركات التمرد المسلحة في دول عديدة وتزعزع استقرار الكيانات السياسية إلى درجة أن العسكر قاموا بانقلابات قاسية ووحشية في بعض الحالات مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، قضت على حرية الناس وأصبحت تزج في السجون - أو تقتل - آلافا من الأبرياء وتختطفهم بلا رجعة. ولاتزال في أمريكا اللاتينية بقع واسعة من حركات الرفض العبثية الطابع كما في البيرو وكولومبيا، مما يؤدي إلى قلاقل مستمرة وأعمال حربية وخطف وقتل الأبرياء في هذين البلدين.
مجازر جماعية
ويمكن أيضًا أن نذكر ما حصل في كمبوديا من جرّاء زعزعة الكيان السياسي الكمبودي خلال الحرب الأمريكية ضد فيتنام، مما أدى إلى مجزرة جماعية رهيبة على يد حكم الخمير الحمر أودت بحياة ثلاثة ملايين نسمة. وفي الماضي القريب كيف لا نذكر حالات الهستيريا الجماعية التي سيطرت على مكونات المجتمع اليوجوسلافي وأدّت إلى حروب شعواء بين الأقاليم اليوجوسلافية التي انفصلت عن الدولة المركزية على الرغم من التاريخ المشترك واللغة المشتركة (باستثناء حالة كوسوفو). كما أنه لابد من ذكر موجة الإرهاب داخل المجتمعات الغربية واليابان في الستينيات من القرن الماضي، وهي كانت نابعة من حركات ترفع راية الماركسية، تخطف وتقتل كبار رجال الأعمال والسياسة في مجتمعات عريقة كالمجتمع الإيطالي أو الألماني أو الفرنسي، وقد مثّلت هذه الموجة آخر مواقف الرفض لتطور النظام الرأسمالي وتوسيعه.
وعندما ننظر إلى كل هذه الأمثلة من العنف العبثي الطابع الذي حصل في مجتمعات مختلفة تمامًا عن مجتمعاتنا، نرى أن القسم المشترك بين ما يحصل لدينا وما حصل في مناطق أخرى من العالم هو انهيار نظام القيم الجماعي الذي يربط الناس بعضهم بعضا ويجعل تصرفاتهم تصرفات سلمية وطبيعية لا يشوبها التوتر وأعمال العنف في ما بينهم. وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الأساسي حول سبب تراخي نظام القيم في مجتمعاتنا العربية إلى درجة أن تعدُّد أعمال العنف العبثية يؤدي إلى قتل المدنيين الأبرياء على يد حركات ترفع راية الدين في معظم الأحيان، كما حصل بشكل خاص في الجزائر وفي العراق على نطاق واسع، وكما يحصل من حين لآخر في لبنان والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن والمغرب على سبيل المثال. هذا بالإضافة إلى أعمال العنف لهذه الحركات في مجتمعات إسلامية أخرى مثل أفغانستان وباكستان وإندونيسيا.
هل هناك سمة مشتركة بين أزمة المجتمعات العربية وأزمة دول غير عربية إنّما إسلامية؟ نعتقد في هذا الخصوص أن القاسم المشترك بين المجتمعات الإسلامية العربية وغير العربية هو أزمة الهوية الجماعية وتحديد معالمها التي بدورها تسوغ نظام القيم المشتركة. وإذا أمكن تفهّم أزمات العنف في باكستان وإندونيسيا على أساس أن الانصهار القومي بين العناصر المختلفة المكوّنة لهذين المجتمعين لم يتم بالشكل الصحيح، وإذا أمكن تحليل الوضع الداخلي الأفغاني بغض النظر عن الاحتلالين السوفييتي والأمريكي على أنه حرب أهلية متواصلة بين جماعات قبلية وعرقية مختلفة، من دون نسيان انشطار دولة باكستان نفسها بعد عشر سنوات من الاستقلال إلى شطرين منفصلين بأخذ منطقة البنغال استقلالها عن دولة باكستان في بداية السبعينيات، فأزمة الهوية في الأقطار العربية تستدعي نوعًا آخر من التحليل.
أوجه متعددة.. ولا تمايز
صحيح أن المجتمعات العربية، كأي مجتمع آخر، تتميّز بتعددية ذات أوجه مختلفة (مناطقية وعشائرية)، غير أن التمايز العرقي واللغوي ليس موجودًا في المجتمعات العربية باستثناء الوجود الكردي في المشرق العربي والوجود الأمازيغي في المغرب العربي، بالإضافة إلى العنصر الأرمني في بعض دول المشرق وبشكل خاص سورية ولبنان هربًا من المجازر التي تعرّضوا لها على يد الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى. وإذا كانت القضية الكردية طرحت مشكلة حادة في العراق، فهي مشكلة تتعدى العراق نفسه تمتدّ إلى تركيا وإيران، فهي لم تؤدّ إلى أعمال إرهابية، بل إلى صراع عسكري مؤجّج بالتدخلات الخارجية، أما القضية الأمازيغية، فلا علاقة لها بتصاعد العمليات الإرهابية العبثية التي تجري في المغرب العربي.
المشكلة إذن هي عندنا كعرب أو مستعربين منذ قرون (الشعوب خارج الجزيرة العربية التي اعتمدت اللغة والثقافة العربية ويدين اغلبيتهم بالإسلام)، ويمكن تلخيصها في أننا لم نتفق يومًا على تحديد عناصر هويتنا. فقد تلوّنت القومية العربية الحديثة بـ «تلاوين» عديدة منذ ظهور الاتجاهات الأولى في القرن التاسع عشر لإبراز شخصية عربية جماعية بعد أن كانت قد طُمست هذه الشخصية منذ قرون عديدة عندما سيطر العنصر غير العربي (العجمي والتركي بشكل خاص) على بلاد العرب. وعندما انطلقت النهضة العربية الأولى في بدايات القرن التاسع عشر، بدأت شخصيات ثقافية عديدة من رجال دين ومدنيين بالتفكير في إعادة تكوين الهوية العربية بشكل مستقل عن نظام الحكم العثماني السائد حينذاك. والحقيقة أنّ الصراع الفكري قد بدأ منذ ذلك الحين بين أنصار قومية إسلامية تحافظ على اللحمة بين العرب وغير العرب من المسلمين، وبين تيار واسع يسعى إلى تأكيد خصوصية الشخصية العربية بالنسبة إلى سائر المجتمعات التي يسود فيها الدين الإسلامي. وقد تُرْجِم هذا الصراع في بدايات القرن العشرين في ظروف انهيار السلطنة العثمانية بتنافس زعامات سياسية عربية جديدة برزت على الساحة لوراثة الخلافة الإسلامية بعد إلغاء هذه المؤسسة في تركيا على يد مصطفى كمال.
وقد تعاظم على مر العقود الصراع بين تيارات فكرية تنشر قومية مركّزة بشكل حصري على الديانة، وقومية مركّزة بشكل محوري على الثقافة واللغة لتأمين تمايز العرب عن غيرهم من الشعوب الإسلامية. وقد أخذ الصراع طابعًا سياسيًا حادًا في ظل تنامي ما يمكن أن نسميه العصبيات القطرية العربية، كل واحدة منها مدّعية خصوصية ريادية لقيادة مسيرة العرب في النظام الدولي الحديث بعد زوال كل من الخلافة العثمانية والاستعمار الأوربي والتركي. وقد أدّى ذلك إلى صراعات هدامة شلت في معظم الأحيان العمل العربي المشترك والتضامن أمام التحديات المختلفة التي واجهها العرب بعد الاستقلال، سواء ما يتعلق بموقع العرب الجماعي في الحرب الباردة أو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية وصدّ التوسع الإسرائيلي واحتلاله أراضي عربية مختلفة أو في مواجهة الثورة الإيرانية الخمينية.
منطقة فراغ
ومن جرّاء ذلك أصبحت المنطقة العربية منطقة فراغ القوة بفقدان التضامن بين أقطارها، مما استجلب مزيدا من التدخلات الخارجية في شئون العرب والدخول في أحلاف مع قوى خارجية تتصارع للهيمنة على المنطقة، خاصة في ظل تنامي المخزون النفطي الذي أصبح مدار أنظار العالم ومطامعه.
وإلى اليوم لم يحسم العرب قضية هويتهم الممزّقة بين العقيدة الدينية كإطار جامع ونظام قيم أي ما يمكن أن يُسمّى القومية الإسلامية، وبين مفهوم قومية عروبية متمحورة حول اللغة والثقافة ووحدة التاريخ والمصير، وأخيرًا بين عصبيات قطرية يلتف حولها المواطنون لدرء مخاطر الصراع بين النوعين من القومية، الذي يمزّق الأمة ويفقدها المناعة الداخلية والخارجية. وفي اعتقادنا أن نتيجة هذا الصراع الذي أخذ طابعًا سياسيًا حادًا، قد حال دون الوصول إلى أي نوع من التراكم المعرفي حول تاريخنا وأوضاعنا ونفسيتنا الجماعية بتلاوينها المختلفة والطبيعية وإلى المنظومة الفكرية والثقافية والسياسية العربية المتماسكة، يرتاح إليها العرب إلى أي قطر انتموا، وتسمح لهم بالتعبير عن التعددية سياسية الطابع من دون تعرُّض المجتمعات إلى الهزات والعنف بين أبناء القطر الواحد.
ومن جرّاء الصراعات الفكرية السياسية الطابع والمتناقضة في الوطن العربي، وعدم الوصول إلى حالات تنموية شاملة ومتسارعة في ظل ارتفاع متواصل في معدلات زيادة السكان، بقيت فئات واسعة من الشباب العربي في كل الأقطار العربية خارج قنوات الازدهار والبحبوحة وفرص العمل اللائقة والكافية بأعدادها لاستيعاب الملايين من المتخرجين من أنظمة التعليم. كما أنّ نظام القيم في المجتمعات العربية أصبح خاضعًا لتناقضات وتمزّقات حادة بين نظرات مختلفة إلى كل الأمور، سواء تعلّق الأمر بقواعد التصرف الأخلاقي المجتمعي أو بنوعية العلاقة مع القوى الخارجية غير العربية.
وبهذا التطور الخطير أصبح التوتر لا يسود فقط العلاقات بين الأنظمة العربية، إنّما أيضًا العلاقات داخل كل قطر عربي بين قوى اجتماعية وعقائدية مختلفة تعتمد أنظمة قيم متناقضة ما بين الانفتاح على قيم الحداثة على النمط الغربي والتمسّك المتحجّر بقيم الموروث الذي أخذ طابعًا دينيًا حادًا وجامدًا. وهذا بدوره ولّد توترًا إضافيًا بين الموروث الخاص لكل مذهب من المذاهب المتفرّعة عن الرسالة المحمدية الشريفة. فأصبحت الهوية الجماعية تتلوّن مذهبيًا وتخلق خط توتر جديدا داخل المجتمعات العربية القطرية، وبين العرب والعجم منذ أنْ بنت الثورة الإيرانية هويتها الجماعية بشكل حصري على قيم دينية.
الخروج على السيطرة
هل هناك من مخرج لهذا الوضع المضحك والمبكي والمأساوي في آن معًا؟
يمكن للإنسان العربي - إلى أي قطر انتمى - أن يشك في إمكان الخروج من هذه الحالة التي تشبه الملحمة الدراماتيكية والدموية في آن معًا، والتي لا يسيطر عليها أحد، بل تحرّكها ديناميكيات خرجت على السيطرة، سواء داخليًا أو بين الأقطار العربية أو في العلاقة مع الخارج، بأنواعها المختلفة، من توترات إضافية في المجتمعات العربية في ظل بسط العظمة العسكرية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة وفي ظل الخطاب الغربي الذي يبرّر هذه السياسة بأمراض المجتمعات العربية والإسلامية, التي تولّد حركات العنف العبثية وذلك من دون أن يفرّق الخطاب الغربي بين العنف العبثي الذي يصيب المدنيين الأبرياء داخل المجتمعات العربية أكثر مما يصيبهم في الدول الغربية نفسها من جهة، وبين أعمال المقاومة الشرعية للاحتلالات في العراق وفلسطين من جهة أخرى. مع الإشارة إلى الحالة اللبنانية حيث لاتزال إسرائيل لا تحترم السيادة اللبنانية ولا تعترف بسيادة لبنان على مزارع شبعا (وهي خزان مياه وموقع استراتيجي عسكري) ولم تكمل عملية تبادل الأسرى بين حركة المقاومة اللبنانية وإسرائيل.
وربّما أصبح المشهد العراقي المفجع يعكس ويكرّس كل هذه التوترات من فتنة مذهبية إلى مقاومة الجيش الأمريكي إلى حركات العنف العبثية التي تقتل المدنيين الأبرياء من أي مذهب كان. وهذا هو الوضع الذي يجعل من المواطن العربي - إلى أي قطر انتمى - غير مبالٍ أمام ضخامة المآسي، فيسعى إلى الحفاظ على نفسه وعائلته أو إلى الهجرة، سواء إلى دول مصدّرة للنفط في الخليج لما فيها من فورة اقتصادية ومالية عملاقة أم إلى الدول الصناعية الكبرى في أوربا وأمريكا وأستراليا. أمّا فئة المثقفين والمفكّرين العرب، فمعظم كتاباتهم لاتزال تصب في التيارات القومية المتناقضة المذكورة سابقًا من دون الخروج من الطريق المسدود والسعي إلى إعادة بناء ثقافة سياسية متجدّدة تتخطّى الانقسامات التي لا أفق لها، وتعمل من أجل التراكم المعرفي وتطوير المنظومة الفكرية والثقافية التي يمكن أن تولّد الراحة النفسية الجماعية في المجتمعات العربية.
ولذلك، لقد آن الأوان لنترك جانبًا نشر عقائد هوية جامدة وحادة ومبسّطة التي تولّد حالات الضيق النفسي والتوتر والفتن، أكانت مبنية على قومية وعصبية دينية أو مذهبية الطابع، أو ثقافية الطابع، أو نتيجة تطور عصبية قطرية حادة لكي نقوم بمراجعة ضمير نقدية تتناول كل هذه السلبيات الموصوفة هنا، وذلك لاستبيان طريق تفكير جديدة تفتح الآفاق بدلاً من أن تقفلها كما هو الحال الآن. وفي ماضينا، البعيد كما القريب -كعرب من أقطار مختلفة، أصبح كل واحدة منها واقعًا لا يمكن التغاضي عنه - مخزون ثمين من التفكير النيّر، دينيًا كان مصدره أم مدنيًا وفلسفيًا، والتجارب، ومنها المرّة ومنها البرّاقة، لكيْ نعيد إنتاج فكر إبداعي جديد ومتكيّف مع الزمن الحديث الذي نعيش فيه، والتحديات العملاقة التي علينا أن نواجهها بكل جرأة. لكن، لكيْ نواجه بفعالية التحديات لابدّ من أن يكون في أيدينا سلاح فكري فعّال يمكن أن يولّد واقعًا فكريًا مجتمعيًا جديدًا في كل قطر عربي، وتضامنًا بين الأقطار العربية في معمعة النظام الدولي الحالي.