مشاهدة النسخة كاملة : اللوحةُ حكاية ُسرّ دهشتنا


الجشعمي
20-02-2010, 04:49 PM
ليسَ للّوحة وطنٌ، مثلما ليس للّونِ وطن. اللوحةُ تولدُ لتبقى، بقيتْ مُذ رسمها الفنانُ البدائيّ على جدران الكهوف، شاهدةً على ابداعه وشاخصةً حتى الآن، مخترقةً زمناً يربو على آلاف السنين، ولا تحفظُ اسم مبدعها الأول، لكنّها لا تتنكرُ له ولا تنساه.والكائنُ الحيُّ يولدُ ليموت بعدَ زمن يطولُ أو يقصرُ. الا أنّه مُخلّدٌ فيما يخلّفه من إبداع. إذاً، اللوحةُ حياةٌ وجماد في آنٍ، خرساءُ وناطقة، تتحدّثُ عن سرّها المُحكمِ الإغلاق، لكنْ الا لمنْ يتمكنُ من استنطاقها. تُفسّرُ له مكمن لغزها ومضمونها الذي لا يُطاوعُ كلّ أحد. هي قصةٌ تُصغي لها الباصرةُ ويُصيخ لجنونها كلُّ مفتون باللون وارتعاشتِه وموسيقاه. سيمفونيةٌ خارقةٌ أشبهُ بعزيفِ الجِنة، وأيةُ ومضة أو إشارة لأنامل الفنان تترجمُها اللوحةُ ولو مرّ عليها زمانٌ. ولا يفهمها سوى عاشقِ الفن قراءةً وتأويلاً. ففيها تشظتْ روحُ مبدعها، أراقَ على فضائها دمه المختلف الألوان. وتكونُ خارجَ التسطح والهشاشة والمتعة الخاطفة، فلا تدعُ مستهلكَ الفن أنْ يمرّ الى جوارها بهامشية ولا مبالاة. بل تأسره وتغلّ حواسه على مستويات عدة. هي مخلوقاتٌ تُستلُ من سدم الذاكرة، خلاصةُ العزلة والصبر والعرق والجوع يتضافر لخلقها جنونُ خيال، ومغامرةٌ فردانيةٌ، وخرقٌ للمتوقع والمألوف، إنفجارُ لحظةٍ لولادة كينونة تحققُ للعقل والضمير محطةً للراحة والإسترخاء. كما أنها تكثيفُ صور تُعارُ من تراكم السنوات قبل أن يطوّقها صداُ الإندثاروالنسيان. اللوحةُ مزيجٌ من الحلم الطريّ والمُجفف، ووضعُ الواقع في تناص غرائبي شبيهٍ بأغبرةِ النيازك. هي جهدٌ عياني فرداني شخصاني يجمعُ ما لا تحيطُ به الحواس الا من خلال بؤر مجهرية بالغة الحساسية. يتكيء الرسامُ فيها على محصلة تراثية وحضارية وعقلية يغرفها من متن الحلم أو من شرفات الواقع المحلّق بأجنحة المخيلة.رجعٌ قريبٌ أو بعيدٌ الى المعتاد واللامعتاد والإستثنائي والعجائبي. انها اشتباكٌ مع الغيب والتماهي واللامنظور والفُجائي. كرةٌ سحريةٌ تُريك ما لا يُمكنُ أن يُرى بالحواس. خوضٌ في الظلمة والسحر والعدم والصيرورة. هي فاكهةُ زمن مجهول، لم تمرّ بمراحلها، برعماً أو زهرةً أو حبةً حامضةَ المذاق، وحتى تعروها الحمرةُ والنضجُ فلا بدّ من أن تقطع شوطها في صقيع السُبات قبلَ أنْ تصافحَها الريحُ والضوءُ والمطر. اللوحةُ غابةُ ألوان وخطوط، منتجعُ الفتنة والإنبهار، مخاضُ الوجع ومقدارُ الدهشة يفيضُ ويتبخرُ. لكنها تترك ظلالاً من التماهيات، كما الصورُ تتماهى وتستتر على جدران وقاع فنجان القهوة، ثمّ يأتي أحدٌ كالمنجم يفكّ شفراتها العصية على الذهن والنظر. اللوحةُ داءٌ عُضال يتمرّدُ على الشفاء ويستحيلُ عليه. لذلك تتناوبُ على معالجته تأويلاتٌ متضاربةٌ ضاريةٌ فيها خللٌ وشططٌ وبعضُ صواب. ميزةُ اللوحة إنها تُرضي فئةً من الناس، ولا تطاوعُ كلّ تأويل أو ذائقة. فالوجهُ الواحدُ على سبيل المثال يتحمّلُ أكثرَ من قراءة ضمن اُفقِ المسرة والكآبة والرضا والتمرّد والهدوء والغضب، ينطوي على معجم من القراءات والشروحات ولا تنصاعُ طواعية لكلّ أحد. وكلّ أحد يستنطقها وفق خزينه المعرفي. إذاً هي المجهولُ المستغلقُ والواضحُ الميسور في آنٍ. يُمكنُ سبرُ غورها. ومنْ يقلْ إنها محضُ ألوان وحركاتٌ سديميةٌ وصورٌ فقد أخطأ، ذلك أنها رمقٌ عالقٌ بين الواقع والمستحيل، بين السهل والممتنع، بين واضح ميسور وغامض عصي. تمتلكُ مفاتيحها وتسلمها لمنْ تريد. وتمنعُ آخرين عن ولوج أسرارها. اللوحةُ بكل تفصيلاتها وخلائقها المرئية واللامرئية رحلةٌ في التأريخ الى زمن الطوفان والحمم والنيازك الطائشة، واستشرافُ ما وراء الغد، والقبضُ على كائناته. تأتينا مغبرةً ومُلطخةً بالصدمة والدم والجمرات. ومبدعها رحّالةٌ يجتابُ دهاليزَ الكون من مبتدئه الى منتهاه. منذْ أنْ خفقَ أولُ نبضٍ حتى احتضارِ أخر عشبة على كوكبنا. إذاً تبّاً للوحة إذا لم تكن شفرة تجرحُ دهشتنا، وجمرةً تحرقُ فضولنا وماءً يُطفيء أوار ظمئنا. هي إعصارُ فوضى يجيءُ حيناُ كالشرارة الطائشة، وحيناً يُفاجئنا بعشوائية يتخبط أمامه الفهمُ فلا يُتبصرُ ولا يُبصرُ. اللوحةُ مفاجأةٌ لها كيمياؤها المميزةُ وقانونها الجدلي، ومخلوقاتُها هبواتٌ سحريٌة تتأرجحُ بين الوضوح والغموض، بين المفهوم والمستبهم، لها ميزةُ التفوّق والتحدّي، شيءٌ تفهمه العامةُ ولا تفهمه. مكشوفَ الوجه أو عليه قناعٌ. وربّتما يلتفُّ بطيلسان صوف معتم، أو محضُ لطخة ألوان تتنازع في اُلفة. إنها مُصاغةٌ من لغة يفهمها المُتبصرُ برؤية المنطق والعاطفة، تتقعرُ حيناً كأنها مجرةٌ لا تُدركها الحواسُ، أو تتمرأى في وضوح ماكر يخدعُ الذهنَ والنظر. ولها صوتٌ داخليّ لا يتبيّنه السمعُ. لكنها على كلّ حالٍ دانيةٌ من العقل والتأمل.. بيدَ أنها تسلّمُ زمامها لمنْ كان دؤوباً على التجاوب مع معطاها القابلِ للتأويل. اللوحةُ وضعٌ جماليّ تتصارعُ فيه الأضدادُ، الأبيضُ والأسود مثالاً لذلك، الأبيضُ مسرودُ أمل، انفراجٌ على المستقبل، والأسودُ حالةُ تشنج، موشاةٌ بأشرطة اليأس، لكن الأسود في منطق الفن لون ليلكي ليس أقلّ امتيازاً من الألوان الاُخرى. انه يُضاجعنا ليلاً في أسرتنا، ونهاراً يصحبنا على صورة ظلٍّ. ويعصى على الزوال.واذا التقى هذان النقيضان في أية لوحة فسيكون عندئذٍ عرسٌ وقيامةٌ يكادُ ضجيجهما يصيبُ النظر بالذهول. وكلا اللونين مع بقية ألوان الطيف تحتفي بها اللوحةُ ويُصفقُ لها النظرُ وتتماهى فيها حياةٌ ونبضٌ وروحٌ وموجٌ وحريقٌ، فما أجملَ فضاءَها حين يجتمعُ فيه كلّ هذا التناقض، فلا الشجرُ شجرٌ ولا الغابةُ نفسُها ولا العشبُ هو ذاته يغشى وجه الحديقة. ولا الزهرةُ هي التي تزفّ الرحيق، لتوقظ احلامنا من حيّز السبات. اللوحةُ كينونةٌ تلملمُ متاعنا وتأخذ بنا الى مدائن المُخيلة تستغرقُ في المُراوغة والمكر والعناد تنأى بنا عن متاعب الحياة. وإذا لم تفعلْ ذلك فستكونُ بضاعةً رخيصةً تُباعُ على قارعة الطريق. هي ملكوت تشرئبُ من متون المخيلة السحرية تهزّ مطلعَ الصبح وتُرعشُ أطرافَ الليل، على قدر من التألق لتبهر وتخلخل منطق العقل، ولا معنى لها اذا تجرّدت من صدمة الدهشة رعوداً وصواعق. هي معادلةٌ رياضية أو فيزيائية تجري وفقاً لمسلماتها وانضباطها وقانونها الديالكتيك. هي برَدُ السماء يضربُ يوافيخنا، وحين يتوقفُ يظلّ الصداعُ يصرخُ فينا، ويبقى الوجعُ نستسلمُ لمشيئته، وجعٌ ناعمٌ ولذيذٌ. اللوحةُ منجزُ ابداع لا يشبهُ سواه، نسخة ٌ من ذاتنا تقفُ في الضفة الاُخرى تنظرُ الينا بعينيْ الدهشة...

اللوحةُ قصة ٌ، عنوانها" نزهة ٌ ليلية"أتُراهم يتنزهون فعلاً؟ ذا الليلُ أمامي ليس بليلٍ، لا نجمة َ في الاُفق، ولا قمرَ في قاع السماء، والفضاءُ المفتوحُ فوقَ المباني، إذا جاز أنْ نسمّيه سماءً، ليسَ سماءً. بلْ صفحة ٌ خردلية ٌتقطعها خطوطٌ باهتة ٌ رقيقة ٌ تتقمصُ صوراً غريبة ً، ربّما كانت للجنة والملائكة ظهرت لترعب أوصالَ الليل وكائناته المسالمين. على يسار المرأى ثلاثة ُ شخوص، لعلّي كنتُ رابعَهم أقفُ عن كثبٍ اُراقبهم لصقَ جدارسميك معتم، أرتدي ثوباً أبيض مخططاً بالأحمر. كنتُ أكبر من رفاقي الثلاثة الذين يمشي بهم الطريقُ الى مكان ما. وربتما هم عائدون من نزهتهم الليلية، فأولُهم وقفَ قبالة فوهة بابِ حديدٍ واسع.والمرأى برمته، أراني فيه حالماً، متشظٍ الى أبعاض صور. على ميمنتي واجهة ٌ سميكة ٌعملاقة، أشبهُ بجبل. وثمة َ كنيسة ٌ ملصقةٌ عليها، لها أربعةُ أبراج، ولصقها نافذة ٌ كبيرة ٌ تقفُ منتصبة َالقامة مضاءة ٌ زجاجاتُها. الشخوصُ الذين يمشي بهم الليلُ، وأنا واحدٌ منهم مستقرٌ في مكاني، صامتون لا يجرحون جلال ليلهم بالصراخ والثرثرات يغذون السيرعلى أرجلهم الناحلة، كما لو كانت خيوطاً باهتة، في نزهتهم الليلية، والليلُ ليس بليلٍ. لأنّ السماء بلا نجمٍ ولا قمر، مضاءة بلون خردلي ساطع. وثمة َ مصباحان مرميان بعشوائية على فضاء اللوحة. أحدهما أخضر وهذا مقبولٌ في منطق الأنوار، والآخر أسود. أليسَ غريباً أن يُضيءَ ليلاً أبيضَ مصباحٌ أسودُ؟ لكنْ، على الرغم من غرائبية ما أرى اُحسّ أماناً وأملاً، فلا شيءَ يخدشُ هيبة َ الهدوء أو يجرح أمزجة المشاة. كلُّ شيءٍ في مديات النزهة الليلية خارجَ المنطق والمعقول. أنا ورفاقي الثلاثةُ وجوهٌ مموّهة ٌ بلا ملامح، لطخات خردلية صفراء وضعتنا فرشاةُ الرسام خللَ هذا المشهد العجائبي. نراوح بين أشكال مستطيلة ومفلطحة نرتدي ثياباً فضفاضة. ولنا رؤوسٌ مثلثة بلا سيماء، نمارسُ طقسنا الليلي في سديم أمانٍ وحرية. وقد أحال رسامُنا الليلَ الى نهار قصداً وإيماءً في آنٍ. فمثلما يخرج الناسُ نهاراً من دون خوف يخرجون ليلاً من دون شعور بالخطر. ونحنُ، المتنزهين، نُرصّع جنبات الليل، تعبقُ بقاماتنا الطرقاتُ والمماشي. ما زلتُ أرنو من مكاني الى الأفضية داخلَ برهة محددة سمّاها مجازاً" الليل"وقد يكون ماكراً في لعبته هذه، فجعل الزمنَ بلا زمن كما الحال في متون الأحلام، وصيّرنا نعيشُ في لحظة مفتوحة لكلّ تأويل. اذاً سأقفُ في مكاني حتي يختفي الشخوصُ الثلاثةُ في بؤر مآربهم الآتية، حتماً سينطفئون، لكن ليس داخلَ اللوحة، بل في واعية الرائي الذي قطع مسافات ليرى هذه اللوحة ولِداتها الاُخر، ثمّ غادرها وفي ذاكرته خزين صور، الا أن هذه الصورةَ ستظلّ قصة ً سيحكيها على أبنائه وأحفاده، كونها تنطوي على ثيمات متناقضة، فلا الليلُ ليلاً والأشخاصُ الأربعةُ بشراً، وبضمنهم أنا، وما الكنيسةُ ذاتُ الأبراج الأربعة معبداً يؤمه العباد، وإنما هي صورة ٌ الصقها صانعُ اللوحة في هذا المكان، وقد أبدع في خداعنا. وكذا الجنة والشياطين التي تزحم بظلالهم سماءُ المرأى. لكني شاهد على ما يجري هنا في هذه الليلة التي فقدت صدقيتها، لقد غرسني في مكاني ولما أزلْ مستغرقاً في حلمي الى ما لا نهاية الزمن..