النجـــــم
02-10-2007, 01:03 AM
عمر أبو ريشة و القـدس
بقلم الدكتور أحمد زياد محبك
-1-
اشتهر الشاعر عمر أبو ريشة (1910- 1990) بمواقفه الوطنية والقومية الجريئة، فقد قارع المستعمر الفرنسي إبان احتلاله لسورية (1920- 1946)، كما ندّد ببعض المواقف للحكومة السورية بعد الاستقلال (1946)، وكان موقفه الوطني لاينفصل عن موقفه القومي، بل كان شعوره القومي يطغى في كثير من الحالات على شعوره الوطني.
ولقد حظيت القدس من اهتماماته ومشاعره وعواطفه، مثلما حظيت من شعره وقصائده بأكثر مما حظيت به أي مدينة عربية أخرى، حتى مدينته حلب نفسها، التي فيها نشأ وترعرع وأمضى معظم سني شبابه، وفيها دفن (1990).
عمر أبو ريشة لقد كانت القدس بالنسبة إليه طوال حياته المنطلق الذي يقوّم من خلاله أي موقف، فهي القيمة التي تثبت مقدار الإيمان بالإسلام، والتمسكِ بالعروبة، والإخلاصِ لهما، والموقفُ منها هو الموقف الذي يثبت مقدار الوفاءِ للشعب، وتحقيقِ أهدافه وأحلامه في الحرية.
وكان الشاعر في كل مناسبة وطنية أو قومية، يذكر القدس، لأنها حاضرة دائماً في وجدانه، وفي وجدان كل عربي، ولأنها اللحمة والسدى أيضاً في كل مناسبة، لأن قضيتها لاتنفصل عن أي قضية عربية أخرى.
وليس ذلك الموقف من القدس بغريب، فالقدس هي قلب العرب النابض، وعاصمة فلسطين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهي التي دخلها عمر بن الخطاب، فجعلها ملتقى الأديان، وأرسى فيها قواعد السلام، بل جعلها مدينة السلام، ثم غزاها من بعد الصليبيون، وظلوا فيها مئتي عام، حتى حررها فيما بعد صلاح الدين الأيوبي.
فالشاعر يتغنى ببطولات الشعب العربي في سورية، وعلى رأسه المجاهد إبراهيم هنانو وهو يقارع المحتل الفرنسي، وينشد في حفل تكريمه قصيدة مطولة عنوانها قيود (1937)، وفيها يقول (ص552):
وطن عليه من الزمان وقار
تغفو أساطير البطولة فوقه
فتطل من أفق الجهاد قوافلٌ
النور ملء شعابه والنار
ويهزها من مهدها التذكار
مضر يشدّ ركابها ونزار
-2-
وفي سياق الفخار بالبطولة وربط الماضي بالحاضر، ينعطف الشاعر إلى القدس، ليندد بالمستعمر الإنكليزي، ويقرنَه بالغزو الصليبي، ويصورَ ماألحقَ بالشعب العربي في فلسطين من أذى، فيقول (ص557- 559):
والقدسُ ما للقدسِ يخترق الدِّمَا
أيُّ العصور هوى عليه وليس في
عهد الصليبيين لم يبرح له
وشراعُه الآثامُ والأوزار
جنبيه من أنيابه آثار
في مسمع الدنيا صدى دوار
صف الملوك فما استباح إباؤهم
ناموا على الحلم الأبي فنفّرت
صلبوا على جشع الحياة وفاءهم
وبكل كفٍّ غضة سكينة
شرف القتال ولا أهين جوار
منه الطيوف بُنَوّةٌ فجار
ومشواعلى أخشابه وأغاروا
وبكل عرق نابض مسمار
ثم يتحدث عن دعم الإنكليز لليهود وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين وإقامة كيان لهم، ويندد بخيانة الإنكليز للعهود التي قطعوها للعرب، ثم يؤكد أهمية الحفاظ على الحق، ويحذّر من الضعف، فيقول (ص559- 560):
مدّوا الأكف إلى شراذم أمة
ورمَوا بها البلدَ الحرامَ كما رمت
وبنوا لها وطناً وعبق محمد
أين العهود البيض ترقب فجرَها
ولّت وفي حلق العروبة بُحَّةٌ
إن الضعيفَ على عريق فخارِه
ضجّت بنَتْنِ جسومِها الأمصار
بالجيفة الشطَّ الحرامَ بِحَارُ
وابن البتول بأفقه زخّار
بتلهُّفٍ صيّابةٌ أبرار
وعلى مراشفها العطاش غبار
حَمَلٌ يشدُّ بعنقه جزار
وواضح أن الشاعر يحذّر في البيت الأخير من خطورة الاستكانة والتواكل والنوم على المجد الغابر، لأن الحق لاتحميه إلا القوة، وصاحب الحق من غير قوة حمل ضعيف يقاد إلى حتفه.
- 3 –
ويستشهد في جبل النار بفلسطين المناضل سعيد العاص، وهو ابن حماه، مما يؤكد وحدة الشعب العربي، ووحدة النضال ضد المستعمر، أيّاً كان، وأينما كان، سوءا في سورية أم فلسطين، فهما بلد واحد، والشعب شعب واحد، وتقام له في دمشق وحماه حفلات التأبين، ويقف فيها عمر أبو ريشة ليرثيه بقصيدة مطولة عنوانها شهيد (1937) وفيها يقول (ص569- 571):
ياشهيد الجهاد ياصرخة الهول
كلما لاح للكفاح صريخ
تحمل الحملة القوية والإيمان
فكأن الحياة لم تلق فيها
هبةً في يديك كانت ولما
إذا الخيل حمحمت في الساح
صحت لبيك ياصريخ الكفاح
أقوى في قلبك المفراح
مايروّي تعطش الملتاح
رامها المجد عفتها بسماح
ويذكر بوعود الحلفاء للعرب، ووقوف العرب إلى جانبهم في الحرب العالمية الأولى، وتقديم العون لهم، على أمل نيل الحرية والاستقلال، ثم يندّد بنكث الحلفاء لتلك الوعود، وما جرّ على العرب من احتلال أقطارهم، وسلبهم الحرية، يقول مخاطباً سعيد العاص (ص 572- 574):
أي فتى المجد، إنه العمر، يومٌ
إن من سامك المنون لقوم
خفروا ذمة العهود وصمُّوا
كم وعود معسولة سكبوها
فحشدنا لهم جيوش ولاء
وسفكنا الدم الزكي وزيّنّا
وأردنا الأسلاب منهم فكنا
لخسار وآخرٌ لرباح
لم يحيوا على الحجا والفلاح
الأذن عن صرخة الهضيم اللاحي
في فؤاد العروبة المسماح
ومددنا أكفنا للصفاح
جبين الرحى بغار النجاح
نحن أسلابهم ونحن الأضاحي
والشاعر لايضعف، ولا يدخل اليأس إلى قلبه، بل يظل متمسكاً بالحق، وهو يؤكد أن العرب لن يتخلوا عن فلسطين، حيث استشهد سعيد العاص في جبل النار، بل يؤكد أن مأساة فلسطين ستظل منارة تضيء للعرب طريق الكفاح، حيث يقول (ص 574-575):
جبلَ النارِ لن ننام كما نمتَ
لك حبٌّ في قاسيونَ وصنينَ
أنت للعرب كالمنارة في الساحل
جريحَ العلى كسيحَ الطِّماح
وسَيْناء مالَهُ من براح
لاحت لأعين الملاح
والشاعر يبدع في القصيدة نفسها تصوير الصراع بين العرب في فلسطين والعداة المحتلين، ويقدم لوحة فنية متميزة، إذ يصور جبل النار في فلسطين يهتز غضباً من ظلام الطغاة، وتنطلق النسور العربية، تاركة فراخها، لتصارع قوى الظلام، ولكن هذه القوى تسلط نيرانها على النسور، فتحترق أجنحتها، وهي تنشب مخالبها في جسد الظالم، وتأبى إلا أن تسلم الروح وتروي الأرض بدمائها. يقول (ص 564- 568):
ياظلام الأجيال قصَّ جناحيك
مرود كحّل الجفون الكسالى
فصحا من عليائه الجبل الهاجع
وتعالى صياحه يتوالى
تركت في الوكون أفراخها الزغب
وتبارت عصائبا فالفضا الرحب
غضب البغي فانبرى يحشد الهول
شقّ فكّي جهنمٍ فأسالت
فاقشعرت من وهجة القلل الصمّ
وتدجّى الدخان يحجب عين الشمس
فتهاوت تلك النسور وأزرت
تنشب المخلب المعقّف في البغي
ولسان اللهيب يلعب بالريش
غضبة للنسور لا النصر فيها
لم تُزَحْزَحْ تلك المخالب إلا
فتلاشى الدخان عن وَثَبَات البغي
وسرى الليل مالئاً جبل النار
يادماء النسور تجري سخاء
أنبتي العز سرحة يتفيا
أنت دمع السماء إن لهث الحقل
فهذي طلائع الإصباح
فأفاقت على السنا اللمّاح
واهتزّ مفعم الأتراح
فاشرأبت نسوره للصياح
وهبت على أزيز الرياح
بساط من مخلب وجناح
ويرنو إلى الأذى بارتياح
في الروابي لعابَها والبطاح
وأجّت شوامخ الأدواح
عن مأتم الثرى المستباح
بالمنايا على اللظى المجتاح
وتزجي المنقار في إلحاح
ويطوي الجراح فوق الجراح
بمتاح ولا الونى بمباح
بعدما جُرِّدَتْ من الأرواح
في بركة الدم النضاح
سكوناً لولا نشيد الأضاحي
بغرام البطولة الفضاح
بأظاليلها شتيت النواحي
وجفت سنابل وأقاحي
فالشاعر يبدع في تصوير الصراع بين قوى الحق والباطل، الخير والشر، العرب والصهاينة، وهو يستعير صورة الليل والظلام والنيران تغالبها النسور وتنشب فيها مخالبها وتبذل الروح والدم لتسقي الأرض العطشى، والشاعر يؤكد أن قوى الحق على استعداد دائم للتضحية والفداء، وإن كانت تعلم أن الغلبة لن تكون لها، وحسبها فخراً وشرفاً أنها تثبت بطولتها، وتؤكد حقها، كما يؤكد الشاعر أن هذا الدم لن يضيع عبثاً فهو الذي سينبت شجرة العزة.
وصورة الصراع مبتكرة، وهي حافلة بالصور الجزئية البديعة، فالبغي يشق فكي جهنم، والثرى في مأتم مستباح، والنسور تنشب المخلب في البغي وتزجي المنقار، والعز بعد ذلك سرحة، والدماء دمع السماء يروي الحقل الظامئ.
إن القصيدة مبنية على فنية عالية، وصور جديدة، ومعان بعيدة، وليس فيها إلا قدر قليل من المباشرة والخطابة ، على الرغم من أنها قيلت في مناسبة، وأنشدت في حفل، وكانت موجهة إلى جمهور حاشد من المتلقين.
وإذا دلَّ هذا على شيء، فإنه يدل على أن الشاعر يأبى إلا أن يجوِّد فنه، ولو كانت قصيدته في مناسبة، فهي تصدر عن موهبة، لايمكن إلا أن تعبر عن ذاتها،أقوى مايكون التعبير.
- 4 -
وفي عام 1945 قبل أن يتم لسورية الاستقلال، تفتتح دار اكتب الوطنية بحلب، وفي حفل الافتتاح يلقي الشاعر قصيدة مطولة عنوانها " هذه أمتي " (1945)، وفيها يعتز بالعروبة وقدرتها على نفض غبار الأيام، والنهوض ثانية لتصنع العزة، ثم يلتفت إلى القدس، ليشير إلى غدر الأحلاف بالعرب، ونكثهم بعهودهم لهم، وتشجيعهم اليهود على الهجرة إلى فلسطين، فيقول (ص526- 527):
وسلوا القدس هل غفا الشرق عنها
أهتاف خلف البحار بصهيونٍ
ومن الهاتف الملح؟ أحرٌّ ؟
أين ميثاقه؟ أتنحسر الرحمة
يالذل العهود في فم من
أو طوى دونها شبا مُرّانه
وحدب على بناء كيانه
أين صدق الأحرار من بهتانهِ
في دفتيه عن عدوانه ؟
أجرى على عزّها دما فرسانه
ثم يشيد بطهر الأرض المقدسة، ويستنكر تدنيسها بالعدوان، ويؤكد أن الحق لابد سينتصر، وأن الباطل سيدحر وينهزم، فيقول: (ص725- 528):
أي فلسطين يا ابتسامة عيسى
ياتثني البراق في ليلة
لاتنامي خضيبة الحلم خوفا
إنّ للبيت ربّه فدعيه
لجراح الأذى على جثمانه
الإسراء والوحي ممسك بعنانه
من غريب الحمى ومن أعوانه
ربّ حاو رَدَاه في ثعبانه
ومما لاشك فيه أن الشاعر لايرفع دعوة التسليم حين يقول إن للبيت ربه فدعيه، بل يعبر عن ثقة بأن الباطل سينهزم من غير شك لأنه يحمل في داخله بذور فنائه بسبب اعتماده على الزيف والباطل، كالحاوي الذي يعتمد على الأفعى في كسب عيشه. - 5 – وأقيمت حفلة ثانية في دار الكتب الوطنية بحلب، عام 1947 في ذكرى جلاء المستعمر عن سورية، فيلقي عمر أبو ريشة قصيدة مطولة عنوانها: "عرس المجد" (1947) يفخر فيها بمجد العرب، ويعبر عن فرحة كبيرة بالاستقلال، يقول في مطلعها (ص 437):
ياعروس المجد تيهي واسحبي
لن تري حفنة رمل فوقها
درج البغي عليها حقبة
في مغانينا ذيول الشهب
لم تعطر بدما حرّ أبي
وهوى دون بلوغ الأرب
ثم يخاطب في تضاعيف القصيدة القدس الشريف فيتغنّى بطهر أرضه ثم يؤكد أن المصاب في فلسطين قد وحّد العرب ولمَّ شملهم وأنهم جميعاً لن يتخلوا عن الحق، فيقول (ص447- 448) :
ياروابي القدس يامجلى السنا
دون عليائك في الرحب المدى
لمت الآلام منا شملنا
فإذا مصر أغاني جلّقٍ
ذهبت أعلامها خافقة
كلما انقضّ عليها عاصف
بورك الخطب فكم لف على
يارؤى عيسى على جفن النبي
صهلة الخيل ووهج القضب
ونمت مابيننا من نسب
وإذا بغداد نجوى يثرب
والتقى مشرقها بالمغرب
دفنته في ضلوع السحب
سهمه أشتات شعب مغضب
والشاعر بذلك يدل على رؤية تتمسك بالحق، وتثق بالمستقبل، وترى في المصيبة نفسها مايحقق الخلاص، ولكن من خلال وحدة العرب.
- 6 –
ولكن هذه الرؤية الواثقة المتفائلة، ماتلبث أن تصاب بفاجعة كبيرة، عندما ترتد القوى العربية على أعقابها عام 1947، ويعلن الكيان الصهيوني في 15 أيار 1948 عن قيام دولة إسرائيل، فينفجر الغضب في قلب الشاعر، ويعاتب أمته بقسوة، منكراً عليها تقصيرها في الدفاع عن الحق في قصيدة له شهيرة عنوانها " أمتي " (1947) يقول في مطلعها (ص7):
أمتي، هل لك بين الأمم
أتلقاك وطرفي مطرق
ألإسرائيل تعلو راية
كيف أغفيت على الذل ولم
منبر للسيف أو للقلم
خجلاً من أمسك المنصرم
في حمى المهد وظل الحرم
تنفضي عنك غبار التهم
وسرعان مايصب الشاعر نقمته على القادة العرب آنئذ ويحملهم المسؤولية، ويعاتبهم بحدّة بالغة، فيقول عنهم: (ص10)
ربّ وامعتصماه انطلقت
لامست أسماعهم لكنها
ملء أفواه البنات اليتم
لم تلامس نخوة المعتصم
ثم يلتفت إلى الشعب العربي ليحمله المسؤولية كلها، ويلومه على سكوته عن حكامه، فيقول (ص10- 11):
أمتي كم صنم عبدته
لايلام الذئب في عدوانه
فاحبسي الشكوى فلولاك لما
لم يكن يحمل طهر الصنم
إن يك الراعي عدو الغنم
كان في الحكم عبيد الدرهم
والقصيدة مفعمة بالحدة وشدة الانفعال، وهي تضج بالأسئلة والنداءات، وقد عني الشاعر فيها بالطرافة والإدهاش، وتعدّ إحدى قصائده المتميزة، وقد لقيت في حينها رواجاً كبيراً، وحسبها أنه استهل بها ديوانه الذي أصدره عام 1971.
- 7 -
وينتاب الشاعر بعد ذلك قدر غير قليل من الاكتئاب والحزن، وهو يرى القدس تنتهك، وقوافل اللاجئين تجرّ خطا الألم والشقاء والعذاب، والعرب لاهون عنهم عابثون، فيطلق قصيدة مطولة عنوانها " حماة الضيم" (1948)، وفيها يقول (ص17-20):
هل في روابي القدس كهف عبادة
خشب الصليب على الرمال مخضب
فإذا سبيل الحق منفض الصوى
وإذا قوافله العجاف طريدة
كم متعب جرّ السنين وراءه
متلفتاً صوب الديار مودّعا
كم حرّة لم تدر عين الشمس ما
وبناتها وجلى تضج أمامها
بمن استجارت هذه الزمر التي
العري ينشرها على أنيابه
تحنو جوانبه على أحبارِهِ
بدماء من نعموا بطيب جوارهِ
تاهت به الطلقاء من زوارهِ
والبغي يقذفها بمارج ناره
ومشيبه يبكي جلال وقاره
وخطاه بين نهوضه وعثاره
في خدرها أغضت بطرف كاره
والرجس يدفعها إلى أوكاره
مد الزمان لها يد استهتاره
والجوع يطويها على أظفاره
فلربّ سكير شدا مترنّحا
ولربّ متلاف أشاح بوجهه
حسبت بناء العرب مسموك الذرى
فإذا البناة على ذليل وسادها
ودموعها ممزوجة بعقاره
عنها وملء البيد سيل نضاره
تتحطم الأحداث دون جداره
تغفو عن الشرف الذبيح وثاره
وعلى الرغم من هذا الألم، وما يراه الشاعر من مظاهر الضعف والبؤس والتشرد، فإنه لايفقد الأمل، ويظل على ثقة بأن فجر الخلاص قادم، فيقول (ص20):
مهلاً حماة الضيم إن لليلنا
مانام جفن الحقد عنك وإنما
فجراً سيطوي الضيم في أطماره
هي هدأة الرئبال قبل نفاره
ومما لاشك فيه أن هذه الثقة بالنهوض إنما هي مستمدة من التمسك بالحق العربي، ومن قوة هذا الحق نفسه.
- 8 –
وها هو ذا العيد يمرّ بالشاعر، فلا يهنأ به، ولا يحس فيه بسعادة، لأن روابي القدس مستباحة، ولكنه يثق بأن خلاصها قادم، ويعبّر عن ذلك في قصيدة " ياعيد " (1949) وفيها يقول: (ص 93- 95):
ياعيد، ماافترّ ثغر المجد، ياعيد
فكيف تلقاك بالبشرى الزغاريد
طالعْتَنا وجراح البغي راعفة
فتلك راياتنا خجلى منكسة
ياعيدكم في روابي القدس من كبد
سالت على العز إرواء لعفته
سينجلي ليلنا عن فجر معترك
وما لها من أساة الحي تضميد
فأين من دونها تلك الصناديد
لها على الرفرف العلوي تعبيد
والعز عند أباة الضيم معبود
ونحن في فمه المشبوب تغريد
والقصيدة تدل على حزن يحزّ في أعماق الشاعر، لما نال القدس من عدوان، ولما هو عليه حال العرب من تقصير تجاهها، كما تدل القصيدة على تضحيات العرب في فلسطين ونيلهم الشهادة، والشاعر يمجّد أرواحهم، ومن خلال هذه التضحيات يمتلك الثقة بالنصر.
إن الحزن حالة لابدّ منها، تزيد الحسّ رهافة، والوعي قوة، ولا تعدم الرجاء، ولا تفني الأمل، بل لعل تلك الحالة تزيد الأمل قوة.
- 9 –
وتمر على النكبة عشر سنوات، ويطل العام الجديد 1959، فيجد الشاعر المأساة ماتزال كما هي، احتلال، وتشريد، وقهر، فلا يهنأ الشاعر بقدوم العام الجديد، ويجد غرفته كئيبة خاوية، على الرغم من امتلائها ببطاقات التهنئة التي يراها فارغة من معناها، وهذا مايعبر عنه في قصيدة عنوانها "عام جديد" (1959) وفيها يقول (ص64):
وحدي هنا في حجرتي
والليل والعام الوليد
وحدي، وأشباح السنين
كم حطّمَتْ مني ومن
وقفت لتنثر كل جرح
من صيحة الوطن الطعين
وكآبة الشيخ الطريد
وتململ الأحرار في
وتكالب الأقزام فوق
وحدي هنا في حجرتي
ورسائل شتّى تقول
العشر ماثلة الوعيدْ
زهوي ومن مجدي التليدْ
كان في صدري وئيدْ
ورقدة الوطن الشهيد
ودمعة الطفل الشريد
أغلال حكام عبيد
ذيول عملاق عنيد
والجرح والفجر الجديد
جميعها عاماً سعيد
إن حزن الشاعر في العيد، وإحساسه بما يعانيه وطنه وأمته من هوان الاحتلال والتشريد والقهر، لهو دليل على أن الشاعر يحمل الوطن والأمة في وجدانه دائماً، وأن فرحة الإنسان لاتكتمل إلا بفرحة الوطن، وتلك هي في الحقيقة معاناة كل مواطن عربي.
إن ذلك كله يؤكد أن القضية الفلسطينية هي قضية كل عربي، يعيش نبضها كل يوم، ويحس بمأساتها، ولا يهنأ في عيشه، والأرض المقدسة مدنسة، والقدس الشريف منتهك، والشقيق الفلسطيني يعاني من التشريد أو الاحتلال.
- 10 –
ولذلك يصعب على الشاعر أن يسمع أن أحد الأغنياء العرب قد أنفق مبلغاً كبيراً على ملذاته، في الوقت الذي تعاني فيه القدس من جراحها فيثور غضب الشاعر، وينقم، ويمضي ليرسم لوحة لذلك الغني، يسخر فيها منه، ويهزأ، في قصيدة له عنوانها "هكذا" (1954) وفيها يصور جود ذلك الغني وإنفاقه على ملذاته، فيقول (ص26-27):
قال: ياحسناء ماشئت فاطلبي
أختك الشقراء مدت كفها
فانتقى أكرم مايهفو له
وتلاشى الطيب من مخدعه
فكلانا بالغوالي مولع
فاكتسى من كل نجم إصبع
معصم غضٌّ وجيد أتلع
وتولاه السبات الممتع
ثم يعلّق على موقف الغني، ساخراً، في تفجع مرّ، فيقول في ختام القصيدة (ص27):
هكذا تقتحم القدس على
غاصبيها هكذا تسترجع
وفي هذا الختام مايحزّ في الأعماق، ويثير الشعور بالمرارة والألم، بالإضافة إلى مافيه من سخرية وإدانة.
- 11 –
وفي كل مناسبة، ينعطف الشاعر إلى القدس، ليعبر عن واقعها المؤلم، ففي حفل تأبين الشاعر اللبناني الأخطل الصغير عام 1969 يلقي أبو ريشة قصيدة مطولة، عنوانها "بنات الشاعر"، يرثي فيها الشاعر، ويأبى إلا أن ينطق بما في نفسه من حزن وأمل، حزن على واقع فلسطين، والأمة العربية، وأمل في المقاومة الفلسطينية وحركتها فتح التي أعلن عنها عام 1965.
وهاهو ذا يخاطب الشاعر الأخطل الصغير ويبوح له بما في جوانحه من ألم على أمته، فيقول: (ص75- 76):
ياراقداً في حمى النعمى ومضجعه
نجيُّك اليوم من أزرى الزمان به
جناحه بعدما طال المطاف به
يمشي الهوينا على صحراء رحلته
كانت له في هضاب الشرق ألوية
يسائل القدر المحموم في خجل
مازال يندىعليه العشب والزهر
وردّه عن مدى آفاقه الكِبَرُ
مخضّب من شظاياالشهب منكسر
وصحبه الليل والأشباح والسهر
نَسْج الكرامة معقود بها الظفر
عنها فيغضي على استحيائه القدر
وهذا البوح الحزين لايعبر عن مشاعر فردية خاصة، إنما يعبر عن مشاعر وطنية قومية شاملة، مرجعها الحزن على واقع الأمة العربية وما نالها من ضيم، ولكن الشاعر لايفقد الأمل، فعزاؤه في كتائب الفتح، وأمله في رجال المقاومة، الذين يصنعون المستقبل، يقول الشاعر (ص76-77):
كتائبُ الفتح في إعصار عاصفة
من كلّ أمرد ما أدمى مراشفَه
وكلِّ حسناءَ ماباعت أساورها
كتائبٌ بالنضال الحق مؤمنة
بالحقد والغضب العلوي تنفــجر
في رعشةالشوق إلا الوحلُ والمدر
إلا لتشتري بها ما الموتُ يدّخر
إذا الطواغيت من إيمانها سخروا
ولكن، على الرغم من هذا الأمل برجال الفداء والتضحية، يظل الشاعر حزيناً، بسبب يأسه من الحكام العرب، وهو يدين في القصيدة نفسها مؤتمر القمة الذي عقدوه آنئذ في الرباط، ثم يعلن في الختام عن ألمه الشديد لأنه لم يقل كل ماكان يريد أن يقول، فما تزال في الصدر غصة، يقول (ص 78):
عفواً بشارة بعض البوح ضقت به
خنقت بالدمعة الخرساء أكثره
فسال فوق فمي حرّان يستعر
وأقتل الدمع مالا يلمح البصر
- 12 –
ولذلك يعلّق الشاعر الأمل على الملك فيصل عندما يعلن عام 1975 عن عزمه على تحرير القدس، فيتمثل فيه صلاح الدين محرّر القدس، ويتوجه إليه في قصيدة مطولة عنوانها " أنا في مكة "، فيقول في مجموعة " أمرك يارب " (ص 57):
ربعُ حطينَ موحش ياصلاح الدين
سِرْ بنا صوبه وصلّ بنا في القدس
إلا من ذكريات غوال
واضرب حرامه بالحلال
- 13 –
ولكن فجأة يغتال الملك فيصل عام 1975، فيرثيه الشاعر بقصيدة مطولة عنوانها "أمرك يارب" (1395هـ 1975م)، وهما الكلمتان اللتان نطق بهما الملك فيصل وهو يجود بروحه، وقد جعل الشاعر القصيدة على لسان الملك، وصوره وهو يودّع الدنيا، ويتوجه إلى ربه بالنداء، معبراً عن أمنيته الأخيرة، وهي تحرير القدس، فيقول في المجموعة نفسها (ص14):
لي بعدُ ياربّ من دنياي أمنيةٌ
أردت أختم فيها العمر مقتحما
وأن أصلِّي وكف القدس تحمل لي
ماكان أكرمها في العمر أمنية
تقتات بالوعد منها كلّ أشجاني
أحقادَ حطين في مضمارها الثاني
رضاك في المسجدالأقصىوترعاني
ماكنت أحسبها تمضي وتنساني
والشاعر يدرك أن الملك فيصل لم يفقد الأمل، كما أن الشاعر نفسه لم يفقد الأمل فكلاهما يثق بالشعب، ويعرف أن القوم لن يتخلوا عن الحق، ولن ينسوا الأمانة، ولا بد من تحرير القدس، ولو طال الأمد، يقول الشاعر على لسان الملك فيصل وهو يجود بروحه (ص16):
يارب ماضاع عهد القدس إن له
أمانة لك لن يرموا بحرمتها
أكاد ألمحهمْ في ظل مسجدها
قومي الأباةَ أعادي كلِّ عدوانِ
ولن يجروا عليها ذيل نسيانِ
وخالدٌ من سنا محرابه دان
وبذلك يعبر الشاعر عن رؤية قوامها التمسك بالحق، والثقة بالشعب، والتفاؤل بالمستقبل، والأمل بتحقيق النصر.
- 14 –
وتلك الرؤية، هي رؤية كل عربي يؤمن بالحق ويتمسك به ويناضل لأجله، وتلك المعاناة هي معاناة الشعب العربي كله، من المحيط إلى الخليج. وهي معاناة شعب، ورؤية شعب، تعدّ قضية فلسطين بالنسبة إليه قضية حق ووجود، وهي قضية حاضر ومستقبل، ولذلك لايفقد المرء الأمل، ولو وافاه الأجل، لأنها قضية شعب وتاريخ ووطن.
ولعل في هذا كله مايؤكد انتساب الشاعر إلى أمته وشعبه وتاريخه، بل مايؤكد عمق ذلك الانتساب وقوته ورسوخه وصدقه، فهو انتساب شاعر وعى القضية، وعاش تاريخها، وعرف أبعادها، ذاق فيها المرّ، ورأى النكبة والنكسة، ولكنه لم يقنط، وظل متعلقاً بالقضية.
- 15 –
ومثلما أخلص أبو ريشة للقضية في فكره ووجدانه ومواقفه، كذلك أخلص لها في فنّه، فكان يجوّد شعره، ويتقنه، ويعنى بصوره، ويجدّدها، وينتقي ألفاظه، ويجوّدها.
ولعلّ أهم ماسيذكر له جرأته في انتقاد الحكام العرب، وتحميلهم مسؤولية ضياع القدس وفلسطين، والتنديد بحرصهم على عروشهم، كما سيذكر له دائماً ثقته بشعبه، وأمته، وتعليقه الأمل دائماً على الجندي والمقاتل والفدائي، وحماة الوطن، وإدراكه أن القوة دائماً هي السبيل إلى النصر.
ومن أهم المعاني التي كان يردّدها طهر القدس ونقاؤها، وإشارته إلى مكانتها لدى المسيحيين والمسلمين، فهي مهد عيسى ومسرى محمد، عليهما السلام، وكان يراهما دائماً متعانقين.
كما كان يرى في الصهاينة دائماً شرذمة من اليهود الكاذبين الظالمين الطغاة صانعي الأكاذيب مدنسي الحرم المقدس.
وفي هذا السياق كان يندّد دائماً بالإنكليز، لنكثهم وعودهم للعرب، ومنحهم العهود لليهود.
وكان مايفتأ يمجد الشهداء، ويأسى لآلام المشرّدين، واللاجئين، ويؤكد انتصار الحق بالقوة. وما كان يهنأ بعيد بل كان في كل عيد يذكر القدس، كما يذكرها في كل مناسبة، لأنه كان يحمل القضية في وجدانه.
وأمل الشاعر بالمستقبل، وثقته بالشعب، وتفاؤله بالنصر، ماكان ليمحو نغمة حزن كانت تشيع في كل ماقاله عن القدس وفلسطين، مثلما هي شائعة في شعره كله. كذلك لايغيب التاريخ عن شعره في القدس، ففي كل حين تأتلق أسماء خالد وصلاح الدين وكتائب الفتح، مثلما تألقت في شعره قصائده عن محمد وخالد والمتنبي والمعري. وإذا دلّ شيوع الحزن في شعره كله وتألق التاريخ على نزوع رومانتيكي، فإنه يدل على ماهو أهم من ذلك، ألا إنه الصدق والأصالة وتميز الصوت وخصوصيته.
ويلاحظ أخيراً أنه كان يعالج تلك المعاني بلغة شعرية راقية، فيها قوة وفيها متانة، وفيها صور جديدة، وإشارات بعيدة، شفيفة، حتى في القصائد التي يعرف أنه سيلقيها في مناسبة، وأمام جماهير حاشدة. لقد كانت المناسبات تقدح زناد قريحته، وتثير فيه شاعريته، وتحرضه على القول، فيجود فيها مثلما يجوّد في غيرها، فإذا هو مجوّد في قصيدة المناسبة مثلما هو مجوّد في غيرها، وإذا دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على شاعر صادق، مخلص لشعره وفنه، في الحالات كلّها.
- 16 –
ويبقى عمر أبو ريشة بعد ذلك كله واحداً من مئات الشعراء العرب، الذين اعتنقوا القضية الفلسطينية، وعشقوا القدس، وتمسكوا بالحق العربي، وناضلوا بشعرهم وفنهم، وأحياناً بدمهم وأرواحهم، في سبيل النصر، ولم يكن أبو ريشة الصوت الفرد الوحيد. ولا بد من القول أيضاً إن أولئك الشعراء أيضاً هم ضمير الشعب، وصوت الأمة، وما التزام الشعراء القضية الفلسطينية إلا جزء من التزام الشعب العربي في كل مكان وكل قطر لهذه القضية، التي هي قضية العرب والمسلمين، ومقياس انتمائهم إلى أمتهم وأرضهم وشعبهم وتاريخهم. وإذا كان الشاعر يمتلك الأمل، ويحمل الثقة والتفاؤل، فلأنه يرى الشعب كله يضحي ويناضل، من أجل تحقيق ذلك الأمل.
بقلم الدكتور أحمد زياد محبك
-1-
اشتهر الشاعر عمر أبو ريشة (1910- 1990) بمواقفه الوطنية والقومية الجريئة، فقد قارع المستعمر الفرنسي إبان احتلاله لسورية (1920- 1946)، كما ندّد ببعض المواقف للحكومة السورية بعد الاستقلال (1946)، وكان موقفه الوطني لاينفصل عن موقفه القومي، بل كان شعوره القومي يطغى في كثير من الحالات على شعوره الوطني.
ولقد حظيت القدس من اهتماماته ومشاعره وعواطفه، مثلما حظيت من شعره وقصائده بأكثر مما حظيت به أي مدينة عربية أخرى، حتى مدينته حلب نفسها، التي فيها نشأ وترعرع وأمضى معظم سني شبابه، وفيها دفن (1990).
عمر أبو ريشة لقد كانت القدس بالنسبة إليه طوال حياته المنطلق الذي يقوّم من خلاله أي موقف، فهي القيمة التي تثبت مقدار الإيمان بالإسلام، والتمسكِ بالعروبة، والإخلاصِ لهما، والموقفُ منها هو الموقف الذي يثبت مقدار الوفاءِ للشعب، وتحقيقِ أهدافه وأحلامه في الحرية.
وكان الشاعر في كل مناسبة وطنية أو قومية، يذكر القدس، لأنها حاضرة دائماً في وجدانه، وفي وجدان كل عربي، ولأنها اللحمة والسدى أيضاً في كل مناسبة، لأن قضيتها لاتنفصل عن أي قضية عربية أخرى.
وليس ذلك الموقف من القدس بغريب، فالقدس هي قلب العرب النابض، وعاصمة فلسطين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهي التي دخلها عمر بن الخطاب، فجعلها ملتقى الأديان، وأرسى فيها قواعد السلام، بل جعلها مدينة السلام، ثم غزاها من بعد الصليبيون، وظلوا فيها مئتي عام، حتى حررها فيما بعد صلاح الدين الأيوبي.
فالشاعر يتغنى ببطولات الشعب العربي في سورية، وعلى رأسه المجاهد إبراهيم هنانو وهو يقارع المحتل الفرنسي، وينشد في حفل تكريمه قصيدة مطولة عنوانها قيود (1937)، وفيها يقول (ص552):
وطن عليه من الزمان وقار
تغفو أساطير البطولة فوقه
فتطل من أفق الجهاد قوافلٌ
النور ملء شعابه والنار
ويهزها من مهدها التذكار
مضر يشدّ ركابها ونزار
-2-
وفي سياق الفخار بالبطولة وربط الماضي بالحاضر، ينعطف الشاعر إلى القدس، ليندد بالمستعمر الإنكليزي، ويقرنَه بالغزو الصليبي، ويصورَ ماألحقَ بالشعب العربي في فلسطين من أذى، فيقول (ص557- 559):
والقدسُ ما للقدسِ يخترق الدِّمَا
أيُّ العصور هوى عليه وليس في
عهد الصليبيين لم يبرح له
وشراعُه الآثامُ والأوزار
جنبيه من أنيابه آثار
في مسمع الدنيا صدى دوار
صف الملوك فما استباح إباؤهم
ناموا على الحلم الأبي فنفّرت
صلبوا على جشع الحياة وفاءهم
وبكل كفٍّ غضة سكينة
شرف القتال ولا أهين جوار
منه الطيوف بُنَوّةٌ فجار
ومشواعلى أخشابه وأغاروا
وبكل عرق نابض مسمار
ثم يتحدث عن دعم الإنكليز لليهود وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين وإقامة كيان لهم، ويندد بخيانة الإنكليز للعهود التي قطعوها للعرب، ثم يؤكد أهمية الحفاظ على الحق، ويحذّر من الضعف، فيقول (ص559- 560):
مدّوا الأكف إلى شراذم أمة
ورمَوا بها البلدَ الحرامَ كما رمت
وبنوا لها وطناً وعبق محمد
أين العهود البيض ترقب فجرَها
ولّت وفي حلق العروبة بُحَّةٌ
إن الضعيفَ على عريق فخارِه
ضجّت بنَتْنِ جسومِها الأمصار
بالجيفة الشطَّ الحرامَ بِحَارُ
وابن البتول بأفقه زخّار
بتلهُّفٍ صيّابةٌ أبرار
وعلى مراشفها العطاش غبار
حَمَلٌ يشدُّ بعنقه جزار
وواضح أن الشاعر يحذّر في البيت الأخير من خطورة الاستكانة والتواكل والنوم على المجد الغابر، لأن الحق لاتحميه إلا القوة، وصاحب الحق من غير قوة حمل ضعيف يقاد إلى حتفه.
- 3 –
ويستشهد في جبل النار بفلسطين المناضل سعيد العاص، وهو ابن حماه، مما يؤكد وحدة الشعب العربي، ووحدة النضال ضد المستعمر، أيّاً كان، وأينما كان، سوءا في سورية أم فلسطين، فهما بلد واحد، والشعب شعب واحد، وتقام له في دمشق وحماه حفلات التأبين، ويقف فيها عمر أبو ريشة ليرثيه بقصيدة مطولة عنوانها شهيد (1937) وفيها يقول (ص569- 571):
ياشهيد الجهاد ياصرخة الهول
كلما لاح للكفاح صريخ
تحمل الحملة القوية والإيمان
فكأن الحياة لم تلق فيها
هبةً في يديك كانت ولما
إذا الخيل حمحمت في الساح
صحت لبيك ياصريخ الكفاح
أقوى في قلبك المفراح
مايروّي تعطش الملتاح
رامها المجد عفتها بسماح
ويذكر بوعود الحلفاء للعرب، ووقوف العرب إلى جانبهم في الحرب العالمية الأولى، وتقديم العون لهم، على أمل نيل الحرية والاستقلال، ثم يندّد بنكث الحلفاء لتلك الوعود، وما جرّ على العرب من احتلال أقطارهم، وسلبهم الحرية، يقول مخاطباً سعيد العاص (ص 572- 574):
أي فتى المجد، إنه العمر، يومٌ
إن من سامك المنون لقوم
خفروا ذمة العهود وصمُّوا
كم وعود معسولة سكبوها
فحشدنا لهم جيوش ولاء
وسفكنا الدم الزكي وزيّنّا
وأردنا الأسلاب منهم فكنا
لخسار وآخرٌ لرباح
لم يحيوا على الحجا والفلاح
الأذن عن صرخة الهضيم اللاحي
في فؤاد العروبة المسماح
ومددنا أكفنا للصفاح
جبين الرحى بغار النجاح
نحن أسلابهم ونحن الأضاحي
والشاعر لايضعف، ولا يدخل اليأس إلى قلبه، بل يظل متمسكاً بالحق، وهو يؤكد أن العرب لن يتخلوا عن فلسطين، حيث استشهد سعيد العاص في جبل النار، بل يؤكد أن مأساة فلسطين ستظل منارة تضيء للعرب طريق الكفاح، حيث يقول (ص 574-575):
جبلَ النارِ لن ننام كما نمتَ
لك حبٌّ في قاسيونَ وصنينَ
أنت للعرب كالمنارة في الساحل
جريحَ العلى كسيحَ الطِّماح
وسَيْناء مالَهُ من براح
لاحت لأعين الملاح
والشاعر يبدع في القصيدة نفسها تصوير الصراع بين العرب في فلسطين والعداة المحتلين، ويقدم لوحة فنية متميزة، إذ يصور جبل النار في فلسطين يهتز غضباً من ظلام الطغاة، وتنطلق النسور العربية، تاركة فراخها، لتصارع قوى الظلام، ولكن هذه القوى تسلط نيرانها على النسور، فتحترق أجنحتها، وهي تنشب مخالبها في جسد الظالم، وتأبى إلا أن تسلم الروح وتروي الأرض بدمائها. يقول (ص 564- 568):
ياظلام الأجيال قصَّ جناحيك
مرود كحّل الجفون الكسالى
فصحا من عليائه الجبل الهاجع
وتعالى صياحه يتوالى
تركت في الوكون أفراخها الزغب
وتبارت عصائبا فالفضا الرحب
غضب البغي فانبرى يحشد الهول
شقّ فكّي جهنمٍ فأسالت
فاقشعرت من وهجة القلل الصمّ
وتدجّى الدخان يحجب عين الشمس
فتهاوت تلك النسور وأزرت
تنشب المخلب المعقّف في البغي
ولسان اللهيب يلعب بالريش
غضبة للنسور لا النصر فيها
لم تُزَحْزَحْ تلك المخالب إلا
فتلاشى الدخان عن وَثَبَات البغي
وسرى الليل مالئاً جبل النار
يادماء النسور تجري سخاء
أنبتي العز سرحة يتفيا
أنت دمع السماء إن لهث الحقل
فهذي طلائع الإصباح
فأفاقت على السنا اللمّاح
واهتزّ مفعم الأتراح
فاشرأبت نسوره للصياح
وهبت على أزيز الرياح
بساط من مخلب وجناح
ويرنو إلى الأذى بارتياح
في الروابي لعابَها والبطاح
وأجّت شوامخ الأدواح
عن مأتم الثرى المستباح
بالمنايا على اللظى المجتاح
وتزجي المنقار في إلحاح
ويطوي الجراح فوق الجراح
بمتاح ولا الونى بمباح
بعدما جُرِّدَتْ من الأرواح
في بركة الدم النضاح
سكوناً لولا نشيد الأضاحي
بغرام البطولة الفضاح
بأظاليلها شتيت النواحي
وجفت سنابل وأقاحي
فالشاعر يبدع في تصوير الصراع بين قوى الحق والباطل، الخير والشر، العرب والصهاينة، وهو يستعير صورة الليل والظلام والنيران تغالبها النسور وتنشب فيها مخالبها وتبذل الروح والدم لتسقي الأرض العطشى، والشاعر يؤكد أن قوى الحق على استعداد دائم للتضحية والفداء، وإن كانت تعلم أن الغلبة لن تكون لها، وحسبها فخراً وشرفاً أنها تثبت بطولتها، وتؤكد حقها، كما يؤكد الشاعر أن هذا الدم لن يضيع عبثاً فهو الذي سينبت شجرة العزة.
وصورة الصراع مبتكرة، وهي حافلة بالصور الجزئية البديعة، فالبغي يشق فكي جهنم، والثرى في مأتم مستباح، والنسور تنشب المخلب في البغي وتزجي المنقار، والعز بعد ذلك سرحة، والدماء دمع السماء يروي الحقل الظامئ.
إن القصيدة مبنية على فنية عالية، وصور جديدة، ومعان بعيدة، وليس فيها إلا قدر قليل من المباشرة والخطابة ، على الرغم من أنها قيلت في مناسبة، وأنشدت في حفل، وكانت موجهة إلى جمهور حاشد من المتلقين.
وإذا دلَّ هذا على شيء، فإنه يدل على أن الشاعر يأبى إلا أن يجوِّد فنه، ولو كانت قصيدته في مناسبة، فهي تصدر عن موهبة، لايمكن إلا أن تعبر عن ذاتها،أقوى مايكون التعبير.
- 4 -
وفي عام 1945 قبل أن يتم لسورية الاستقلال، تفتتح دار اكتب الوطنية بحلب، وفي حفل الافتتاح يلقي الشاعر قصيدة مطولة عنوانها " هذه أمتي " (1945)، وفيها يعتز بالعروبة وقدرتها على نفض غبار الأيام، والنهوض ثانية لتصنع العزة، ثم يلتفت إلى القدس، ليشير إلى غدر الأحلاف بالعرب، ونكثهم بعهودهم لهم، وتشجيعهم اليهود على الهجرة إلى فلسطين، فيقول (ص526- 527):
وسلوا القدس هل غفا الشرق عنها
أهتاف خلف البحار بصهيونٍ
ومن الهاتف الملح؟ أحرٌّ ؟
أين ميثاقه؟ أتنحسر الرحمة
يالذل العهود في فم من
أو طوى دونها شبا مُرّانه
وحدب على بناء كيانه
أين صدق الأحرار من بهتانهِ
في دفتيه عن عدوانه ؟
أجرى على عزّها دما فرسانه
ثم يشيد بطهر الأرض المقدسة، ويستنكر تدنيسها بالعدوان، ويؤكد أن الحق لابد سينتصر، وأن الباطل سيدحر وينهزم، فيقول: (ص725- 528):
أي فلسطين يا ابتسامة عيسى
ياتثني البراق في ليلة
لاتنامي خضيبة الحلم خوفا
إنّ للبيت ربّه فدعيه
لجراح الأذى على جثمانه
الإسراء والوحي ممسك بعنانه
من غريب الحمى ومن أعوانه
ربّ حاو رَدَاه في ثعبانه
ومما لاشك فيه أن الشاعر لايرفع دعوة التسليم حين يقول إن للبيت ربه فدعيه، بل يعبر عن ثقة بأن الباطل سينهزم من غير شك لأنه يحمل في داخله بذور فنائه بسبب اعتماده على الزيف والباطل، كالحاوي الذي يعتمد على الأفعى في كسب عيشه. - 5 – وأقيمت حفلة ثانية في دار الكتب الوطنية بحلب، عام 1947 في ذكرى جلاء المستعمر عن سورية، فيلقي عمر أبو ريشة قصيدة مطولة عنوانها: "عرس المجد" (1947) يفخر فيها بمجد العرب، ويعبر عن فرحة كبيرة بالاستقلال، يقول في مطلعها (ص 437):
ياعروس المجد تيهي واسحبي
لن تري حفنة رمل فوقها
درج البغي عليها حقبة
في مغانينا ذيول الشهب
لم تعطر بدما حرّ أبي
وهوى دون بلوغ الأرب
ثم يخاطب في تضاعيف القصيدة القدس الشريف فيتغنّى بطهر أرضه ثم يؤكد أن المصاب في فلسطين قد وحّد العرب ولمَّ شملهم وأنهم جميعاً لن يتخلوا عن الحق، فيقول (ص447- 448) :
ياروابي القدس يامجلى السنا
دون عليائك في الرحب المدى
لمت الآلام منا شملنا
فإذا مصر أغاني جلّقٍ
ذهبت أعلامها خافقة
كلما انقضّ عليها عاصف
بورك الخطب فكم لف على
يارؤى عيسى على جفن النبي
صهلة الخيل ووهج القضب
ونمت مابيننا من نسب
وإذا بغداد نجوى يثرب
والتقى مشرقها بالمغرب
دفنته في ضلوع السحب
سهمه أشتات شعب مغضب
والشاعر بذلك يدل على رؤية تتمسك بالحق، وتثق بالمستقبل، وترى في المصيبة نفسها مايحقق الخلاص، ولكن من خلال وحدة العرب.
- 6 –
ولكن هذه الرؤية الواثقة المتفائلة، ماتلبث أن تصاب بفاجعة كبيرة، عندما ترتد القوى العربية على أعقابها عام 1947، ويعلن الكيان الصهيوني في 15 أيار 1948 عن قيام دولة إسرائيل، فينفجر الغضب في قلب الشاعر، ويعاتب أمته بقسوة، منكراً عليها تقصيرها في الدفاع عن الحق في قصيدة له شهيرة عنوانها " أمتي " (1947) يقول في مطلعها (ص7):
أمتي، هل لك بين الأمم
أتلقاك وطرفي مطرق
ألإسرائيل تعلو راية
كيف أغفيت على الذل ولم
منبر للسيف أو للقلم
خجلاً من أمسك المنصرم
في حمى المهد وظل الحرم
تنفضي عنك غبار التهم
وسرعان مايصب الشاعر نقمته على القادة العرب آنئذ ويحملهم المسؤولية، ويعاتبهم بحدّة بالغة، فيقول عنهم: (ص10)
ربّ وامعتصماه انطلقت
لامست أسماعهم لكنها
ملء أفواه البنات اليتم
لم تلامس نخوة المعتصم
ثم يلتفت إلى الشعب العربي ليحمله المسؤولية كلها، ويلومه على سكوته عن حكامه، فيقول (ص10- 11):
أمتي كم صنم عبدته
لايلام الذئب في عدوانه
فاحبسي الشكوى فلولاك لما
لم يكن يحمل طهر الصنم
إن يك الراعي عدو الغنم
كان في الحكم عبيد الدرهم
والقصيدة مفعمة بالحدة وشدة الانفعال، وهي تضج بالأسئلة والنداءات، وقد عني الشاعر فيها بالطرافة والإدهاش، وتعدّ إحدى قصائده المتميزة، وقد لقيت في حينها رواجاً كبيراً، وحسبها أنه استهل بها ديوانه الذي أصدره عام 1971.
- 7 -
وينتاب الشاعر بعد ذلك قدر غير قليل من الاكتئاب والحزن، وهو يرى القدس تنتهك، وقوافل اللاجئين تجرّ خطا الألم والشقاء والعذاب، والعرب لاهون عنهم عابثون، فيطلق قصيدة مطولة عنوانها " حماة الضيم" (1948)، وفيها يقول (ص17-20):
هل في روابي القدس كهف عبادة
خشب الصليب على الرمال مخضب
فإذا سبيل الحق منفض الصوى
وإذا قوافله العجاف طريدة
كم متعب جرّ السنين وراءه
متلفتاً صوب الديار مودّعا
كم حرّة لم تدر عين الشمس ما
وبناتها وجلى تضج أمامها
بمن استجارت هذه الزمر التي
العري ينشرها على أنيابه
تحنو جوانبه على أحبارِهِ
بدماء من نعموا بطيب جوارهِ
تاهت به الطلقاء من زوارهِ
والبغي يقذفها بمارج ناره
ومشيبه يبكي جلال وقاره
وخطاه بين نهوضه وعثاره
في خدرها أغضت بطرف كاره
والرجس يدفعها إلى أوكاره
مد الزمان لها يد استهتاره
والجوع يطويها على أظفاره
فلربّ سكير شدا مترنّحا
ولربّ متلاف أشاح بوجهه
حسبت بناء العرب مسموك الذرى
فإذا البناة على ذليل وسادها
ودموعها ممزوجة بعقاره
عنها وملء البيد سيل نضاره
تتحطم الأحداث دون جداره
تغفو عن الشرف الذبيح وثاره
وعلى الرغم من هذا الألم، وما يراه الشاعر من مظاهر الضعف والبؤس والتشرد، فإنه لايفقد الأمل، ويظل على ثقة بأن فجر الخلاص قادم، فيقول (ص20):
مهلاً حماة الضيم إن لليلنا
مانام جفن الحقد عنك وإنما
فجراً سيطوي الضيم في أطماره
هي هدأة الرئبال قبل نفاره
ومما لاشك فيه أن هذه الثقة بالنهوض إنما هي مستمدة من التمسك بالحق العربي، ومن قوة هذا الحق نفسه.
- 8 –
وها هو ذا العيد يمرّ بالشاعر، فلا يهنأ به، ولا يحس فيه بسعادة، لأن روابي القدس مستباحة، ولكنه يثق بأن خلاصها قادم، ويعبّر عن ذلك في قصيدة " ياعيد " (1949) وفيها يقول: (ص 93- 95):
ياعيد، ماافترّ ثغر المجد، ياعيد
فكيف تلقاك بالبشرى الزغاريد
طالعْتَنا وجراح البغي راعفة
فتلك راياتنا خجلى منكسة
ياعيدكم في روابي القدس من كبد
سالت على العز إرواء لعفته
سينجلي ليلنا عن فجر معترك
وما لها من أساة الحي تضميد
فأين من دونها تلك الصناديد
لها على الرفرف العلوي تعبيد
والعز عند أباة الضيم معبود
ونحن في فمه المشبوب تغريد
والقصيدة تدل على حزن يحزّ في أعماق الشاعر، لما نال القدس من عدوان، ولما هو عليه حال العرب من تقصير تجاهها، كما تدل القصيدة على تضحيات العرب في فلسطين ونيلهم الشهادة، والشاعر يمجّد أرواحهم، ومن خلال هذه التضحيات يمتلك الثقة بالنصر.
إن الحزن حالة لابدّ منها، تزيد الحسّ رهافة، والوعي قوة، ولا تعدم الرجاء، ولا تفني الأمل، بل لعل تلك الحالة تزيد الأمل قوة.
- 9 –
وتمر على النكبة عشر سنوات، ويطل العام الجديد 1959، فيجد الشاعر المأساة ماتزال كما هي، احتلال، وتشريد، وقهر، فلا يهنأ الشاعر بقدوم العام الجديد، ويجد غرفته كئيبة خاوية، على الرغم من امتلائها ببطاقات التهنئة التي يراها فارغة من معناها، وهذا مايعبر عنه في قصيدة عنوانها "عام جديد" (1959) وفيها يقول (ص64):
وحدي هنا في حجرتي
والليل والعام الوليد
وحدي، وأشباح السنين
كم حطّمَتْ مني ومن
وقفت لتنثر كل جرح
من صيحة الوطن الطعين
وكآبة الشيخ الطريد
وتململ الأحرار في
وتكالب الأقزام فوق
وحدي هنا في حجرتي
ورسائل شتّى تقول
العشر ماثلة الوعيدْ
زهوي ومن مجدي التليدْ
كان في صدري وئيدْ
ورقدة الوطن الشهيد
ودمعة الطفل الشريد
أغلال حكام عبيد
ذيول عملاق عنيد
والجرح والفجر الجديد
جميعها عاماً سعيد
إن حزن الشاعر في العيد، وإحساسه بما يعانيه وطنه وأمته من هوان الاحتلال والتشريد والقهر، لهو دليل على أن الشاعر يحمل الوطن والأمة في وجدانه دائماً، وأن فرحة الإنسان لاتكتمل إلا بفرحة الوطن، وتلك هي في الحقيقة معاناة كل مواطن عربي.
إن ذلك كله يؤكد أن القضية الفلسطينية هي قضية كل عربي، يعيش نبضها كل يوم، ويحس بمأساتها، ولا يهنأ في عيشه، والأرض المقدسة مدنسة، والقدس الشريف منتهك، والشقيق الفلسطيني يعاني من التشريد أو الاحتلال.
- 10 –
ولذلك يصعب على الشاعر أن يسمع أن أحد الأغنياء العرب قد أنفق مبلغاً كبيراً على ملذاته، في الوقت الذي تعاني فيه القدس من جراحها فيثور غضب الشاعر، وينقم، ويمضي ليرسم لوحة لذلك الغني، يسخر فيها منه، ويهزأ، في قصيدة له عنوانها "هكذا" (1954) وفيها يصور جود ذلك الغني وإنفاقه على ملذاته، فيقول (ص26-27):
قال: ياحسناء ماشئت فاطلبي
أختك الشقراء مدت كفها
فانتقى أكرم مايهفو له
وتلاشى الطيب من مخدعه
فكلانا بالغوالي مولع
فاكتسى من كل نجم إصبع
معصم غضٌّ وجيد أتلع
وتولاه السبات الممتع
ثم يعلّق على موقف الغني، ساخراً، في تفجع مرّ، فيقول في ختام القصيدة (ص27):
هكذا تقتحم القدس على
غاصبيها هكذا تسترجع
وفي هذا الختام مايحزّ في الأعماق، ويثير الشعور بالمرارة والألم، بالإضافة إلى مافيه من سخرية وإدانة.
- 11 –
وفي كل مناسبة، ينعطف الشاعر إلى القدس، ليعبر عن واقعها المؤلم، ففي حفل تأبين الشاعر اللبناني الأخطل الصغير عام 1969 يلقي أبو ريشة قصيدة مطولة، عنوانها "بنات الشاعر"، يرثي فيها الشاعر، ويأبى إلا أن ينطق بما في نفسه من حزن وأمل، حزن على واقع فلسطين، والأمة العربية، وأمل في المقاومة الفلسطينية وحركتها فتح التي أعلن عنها عام 1965.
وهاهو ذا يخاطب الشاعر الأخطل الصغير ويبوح له بما في جوانحه من ألم على أمته، فيقول: (ص75- 76):
ياراقداً في حمى النعمى ومضجعه
نجيُّك اليوم من أزرى الزمان به
جناحه بعدما طال المطاف به
يمشي الهوينا على صحراء رحلته
كانت له في هضاب الشرق ألوية
يسائل القدر المحموم في خجل
مازال يندىعليه العشب والزهر
وردّه عن مدى آفاقه الكِبَرُ
مخضّب من شظاياالشهب منكسر
وصحبه الليل والأشباح والسهر
نَسْج الكرامة معقود بها الظفر
عنها فيغضي على استحيائه القدر
وهذا البوح الحزين لايعبر عن مشاعر فردية خاصة، إنما يعبر عن مشاعر وطنية قومية شاملة، مرجعها الحزن على واقع الأمة العربية وما نالها من ضيم، ولكن الشاعر لايفقد الأمل، فعزاؤه في كتائب الفتح، وأمله في رجال المقاومة، الذين يصنعون المستقبل، يقول الشاعر (ص76-77):
كتائبُ الفتح في إعصار عاصفة
من كلّ أمرد ما أدمى مراشفَه
وكلِّ حسناءَ ماباعت أساورها
كتائبٌ بالنضال الحق مؤمنة
بالحقد والغضب العلوي تنفــجر
في رعشةالشوق إلا الوحلُ والمدر
إلا لتشتري بها ما الموتُ يدّخر
إذا الطواغيت من إيمانها سخروا
ولكن، على الرغم من هذا الأمل برجال الفداء والتضحية، يظل الشاعر حزيناً، بسبب يأسه من الحكام العرب، وهو يدين في القصيدة نفسها مؤتمر القمة الذي عقدوه آنئذ في الرباط، ثم يعلن في الختام عن ألمه الشديد لأنه لم يقل كل ماكان يريد أن يقول، فما تزال في الصدر غصة، يقول (ص 78):
عفواً بشارة بعض البوح ضقت به
خنقت بالدمعة الخرساء أكثره
فسال فوق فمي حرّان يستعر
وأقتل الدمع مالا يلمح البصر
- 12 –
ولذلك يعلّق الشاعر الأمل على الملك فيصل عندما يعلن عام 1975 عن عزمه على تحرير القدس، فيتمثل فيه صلاح الدين محرّر القدس، ويتوجه إليه في قصيدة مطولة عنوانها " أنا في مكة "، فيقول في مجموعة " أمرك يارب " (ص 57):
ربعُ حطينَ موحش ياصلاح الدين
سِرْ بنا صوبه وصلّ بنا في القدس
إلا من ذكريات غوال
واضرب حرامه بالحلال
- 13 –
ولكن فجأة يغتال الملك فيصل عام 1975، فيرثيه الشاعر بقصيدة مطولة عنوانها "أمرك يارب" (1395هـ 1975م)، وهما الكلمتان اللتان نطق بهما الملك فيصل وهو يجود بروحه، وقد جعل الشاعر القصيدة على لسان الملك، وصوره وهو يودّع الدنيا، ويتوجه إلى ربه بالنداء، معبراً عن أمنيته الأخيرة، وهي تحرير القدس، فيقول في المجموعة نفسها (ص14):
لي بعدُ ياربّ من دنياي أمنيةٌ
أردت أختم فيها العمر مقتحما
وأن أصلِّي وكف القدس تحمل لي
ماكان أكرمها في العمر أمنية
تقتات بالوعد منها كلّ أشجاني
أحقادَ حطين في مضمارها الثاني
رضاك في المسجدالأقصىوترعاني
ماكنت أحسبها تمضي وتنساني
والشاعر يدرك أن الملك فيصل لم يفقد الأمل، كما أن الشاعر نفسه لم يفقد الأمل فكلاهما يثق بالشعب، ويعرف أن القوم لن يتخلوا عن الحق، ولن ينسوا الأمانة، ولا بد من تحرير القدس، ولو طال الأمد، يقول الشاعر على لسان الملك فيصل وهو يجود بروحه (ص16):
يارب ماضاع عهد القدس إن له
أمانة لك لن يرموا بحرمتها
أكاد ألمحهمْ في ظل مسجدها
قومي الأباةَ أعادي كلِّ عدوانِ
ولن يجروا عليها ذيل نسيانِ
وخالدٌ من سنا محرابه دان
وبذلك يعبر الشاعر عن رؤية قوامها التمسك بالحق، والثقة بالشعب، والتفاؤل بالمستقبل، والأمل بتحقيق النصر.
- 14 –
وتلك الرؤية، هي رؤية كل عربي يؤمن بالحق ويتمسك به ويناضل لأجله، وتلك المعاناة هي معاناة الشعب العربي كله، من المحيط إلى الخليج. وهي معاناة شعب، ورؤية شعب، تعدّ قضية فلسطين بالنسبة إليه قضية حق ووجود، وهي قضية حاضر ومستقبل، ولذلك لايفقد المرء الأمل، ولو وافاه الأجل، لأنها قضية شعب وتاريخ ووطن.
ولعل في هذا كله مايؤكد انتساب الشاعر إلى أمته وشعبه وتاريخه، بل مايؤكد عمق ذلك الانتساب وقوته ورسوخه وصدقه، فهو انتساب شاعر وعى القضية، وعاش تاريخها، وعرف أبعادها، ذاق فيها المرّ، ورأى النكبة والنكسة، ولكنه لم يقنط، وظل متعلقاً بالقضية.
- 15 –
ومثلما أخلص أبو ريشة للقضية في فكره ووجدانه ومواقفه، كذلك أخلص لها في فنّه، فكان يجوّد شعره، ويتقنه، ويعنى بصوره، ويجدّدها، وينتقي ألفاظه، ويجوّدها.
ولعلّ أهم ماسيذكر له جرأته في انتقاد الحكام العرب، وتحميلهم مسؤولية ضياع القدس وفلسطين، والتنديد بحرصهم على عروشهم، كما سيذكر له دائماً ثقته بشعبه، وأمته، وتعليقه الأمل دائماً على الجندي والمقاتل والفدائي، وحماة الوطن، وإدراكه أن القوة دائماً هي السبيل إلى النصر.
ومن أهم المعاني التي كان يردّدها طهر القدس ونقاؤها، وإشارته إلى مكانتها لدى المسيحيين والمسلمين، فهي مهد عيسى ومسرى محمد، عليهما السلام، وكان يراهما دائماً متعانقين.
كما كان يرى في الصهاينة دائماً شرذمة من اليهود الكاذبين الظالمين الطغاة صانعي الأكاذيب مدنسي الحرم المقدس.
وفي هذا السياق كان يندّد دائماً بالإنكليز، لنكثهم وعودهم للعرب، ومنحهم العهود لليهود.
وكان مايفتأ يمجد الشهداء، ويأسى لآلام المشرّدين، واللاجئين، ويؤكد انتصار الحق بالقوة. وما كان يهنأ بعيد بل كان في كل عيد يذكر القدس، كما يذكرها في كل مناسبة، لأنه كان يحمل القضية في وجدانه.
وأمل الشاعر بالمستقبل، وثقته بالشعب، وتفاؤله بالنصر، ماكان ليمحو نغمة حزن كانت تشيع في كل ماقاله عن القدس وفلسطين، مثلما هي شائعة في شعره كله. كذلك لايغيب التاريخ عن شعره في القدس، ففي كل حين تأتلق أسماء خالد وصلاح الدين وكتائب الفتح، مثلما تألقت في شعره قصائده عن محمد وخالد والمتنبي والمعري. وإذا دلّ شيوع الحزن في شعره كله وتألق التاريخ على نزوع رومانتيكي، فإنه يدل على ماهو أهم من ذلك، ألا إنه الصدق والأصالة وتميز الصوت وخصوصيته.
ويلاحظ أخيراً أنه كان يعالج تلك المعاني بلغة شعرية راقية، فيها قوة وفيها متانة، وفيها صور جديدة، وإشارات بعيدة، شفيفة، حتى في القصائد التي يعرف أنه سيلقيها في مناسبة، وأمام جماهير حاشدة. لقد كانت المناسبات تقدح زناد قريحته، وتثير فيه شاعريته، وتحرضه على القول، فيجود فيها مثلما يجوّد في غيرها، فإذا هو مجوّد في قصيدة المناسبة مثلما هو مجوّد في غيرها، وإذا دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على شاعر صادق، مخلص لشعره وفنه، في الحالات كلّها.
- 16 –
ويبقى عمر أبو ريشة بعد ذلك كله واحداً من مئات الشعراء العرب، الذين اعتنقوا القضية الفلسطينية، وعشقوا القدس، وتمسكوا بالحق العربي، وناضلوا بشعرهم وفنهم، وأحياناً بدمهم وأرواحهم، في سبيل النصر، ولم يكن أبو ريشة الصوت الفرد الوحيد. ولا بد من القول أيضاً إن أولئك الشعراء أيضاً هم ضمير الشعب، وصوت الأمة، وما التزام الشعراء القضية الفلسطينية إلا جزء من التزام الشعب العربي في كل مكان وكل قطر لهذه القضية، التي هي قضية العرب والمسلمين، ومقياس انتمائهم إلى أمتهم وأرضهم وشعبهم وتاريخهم. وإذا كان الشاعر يمتلك الأمل، ويحمل الثقة والتفاؤل، فلأنه يرى الشعب كله يضحي ويناضل، من أجل تحقيق ذلك الأمل.