مشاهدة النسخة كاملة : التكفيريون في عصر المعلومات


الجشعمي
09-11-2009, 04:47 PM
غضب التكفيريون في مصر غضبا عارما لمنح جائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية هذا العام 2009 للدكتور سيد القمني والدكتور حسن حنفي ، واتهامهما بإهانة الدين ورموزه ، وطالبوا بإقالة وزير الثقافة، واتهموه بتعمد استفزاز مشاعر المصريين، ولم تتوقف الحملة عند حد التصريحات أو التراشق عبر الفضائيات، بل تعدتها إلى ساحات القضاء حيث أقام أحدهم دعوى قضائية ضد وزير الثقافة وشيخ الأزهر مطالبا بنزع الجائزة من القمني وحنفي، وأصدرت ما يسمى بجبهة علماء الأزهر وهي جمعية أهلية غير رسمية، تهاجم الأزهر ورجالاته " بيانا بعنوان "إلى الأمة صاحبة الشأن في جريمة وزارة الثقافة". وتطور الأمر ووصل السجال إلى برنامج من برامج التوك شو بثته فضائية "المحور" المصرية الجمعة 10 يوليو وكان ضيوف البرنامج : رئيس جبهة علماء الأزهر، والأستاذ صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة القاهرة وأحد أعضاء لجنة جائزة الدولة التقديرية، وأعتذر دكتور سيد القمنى بسبب مرضه. وكانت بداية النقاش ساخنة وقاطعة ، حيث أكد رئيس جبهة علماء الأزهر، إن الجائزة التى حصل عليها القمنى هى ثمن لما طالب به من إلغاء القرآن الكريم كدستور للأمة، واعتبره مرتداً، إضافة إلى تأكيده على أن أعضاء اللجنة التى اختارته لهم منهج مختلف ودين آخر غير الإسلام. ورد عليه الأستاذ صلاح عيسى مؤكدا أن استضافة الدكتور رئيس جبهة علماء الأزهر ليحكم بالكفر عليهم يعنى تحريضا ودعوة لقتلهم والتربص بهم، مثلما حدث مع دكتور فرج فودة، وأن جبهة علماء الأزهر لم تقرأ للقمنى أياً من كتاباته. ورد الدكتور بانفعال أنه لا يقرأ كتابات "الزبالة دول"، معتبرا أن الإسلام والقرآن تحولا على يد هؤلاء إلى أرخص البضائع التى ينتهكها أى صعلوك. وأعلن الرجل بأنه المتحدث باسم الله، وقال " مش أنا اللى كفرته.. الله كفره"!.. ثم توجه مقدم البرنامج إلى الدكتور سيد قمنى عبر التليفون وطالب القمنى بحزم بأن يرد علي من يتهمونه بالكفر وسب النبي؟ وبدون قصد او بقصد قدم البرنامج فقرة تحريض وتكفير علنى للدكتور سيد قمنى والدكتور حسن حنفي ! وهذا الموقف يستدعى ان نقف باهتمام عند علاقة الإعلام بالتكفيريين ؟

بداية ثقافة تكفير التفكير وختان العقول، والإفتاء بقتل المفكرين" الخارجين عن القطيع، ظاهرة يفيض بها التراث الفكري العربي، وبالأخص الخطاب التكفيري الموجه للمبدعين والمثقفين والفلاسفة. و من ناحية أخرى يبين لنا التاريخ ان التكفيريين غالبا ما يعتقدوا أنهم وكلاء الله على الأرض، وأنهم أوصياء على عقول البشر، والمدافعين عن عقائدهم ، وحراس الحقيقة المطلقة، ومن حقهم التفتيش عما في الصدور، وهم دائما ما يؤلبون عوام الناس على المثقفين والمبدعين والفلاسفة، مستنفرين الهوس الديني والأخلاقي لدى عامة الناس. ويعتبر الفكر التكفيري من أقبح أنواع العجز الفكري في عصر المعلومات، فجوهر البنية السيكولوجية للتكفيريين تنبع من إحساس بالعجز تجاه الآخرين عموما وخاصة المثقفين والمبدعين والفلاسفة المتميزين بالذكاء والقدرة على التحليل. والأغلب وراء هذا الخطاب التكفيري السعي للمحافظة على موقعهم الذي يعتبره التكفيريون حكرا عليهم فقط فهم الذين يحللون ويحرمون، وينطقون بالحقيقة، وما على العوام والجموع وبقية القطيع إلا السماع والطاعة، وعدم المناقشة والسؤال لأنهم حراس العقيدة ، أصحاب الحقيقة المطلقة !

التكفيريون وعصر المعلومات

والغريب ان التكفيريين لا يدركون ان عصر المعلومات أعلن وفاة احتكار الحقيقة ! وحول أعدادا متزايدة من الناس ليصبحوا ليس فقط مستهلكين للمعلومات، لكن أيضا مرسلين للمعلومات بحكم حقّهم الشخصي. وساعدت تقنيات المعلوماتية على رفع المستوى الثقافي والفكري لعامة الناس، ومنعت نخبة ثقافية محدودة من احتكار المعلومات. والمعلومات الدينية أيضا، لا يمكن أن تحتكر في عصر المعلومات من قبل المحترفين الدينيين، فكلّ شخص عنده فرصة الآن بأن يكون مرسل، و مستلم، ووسيط للخطاب الديني. فظهر الكثير من الأشخاص ذوى الخلفية الشعبية، وأصبحوا زعماء دينيين، يعظون ويبشرون برسالة الهداية، ليس فقط لبسطاء الناس، بل يلتفوا حولهم آخرين، وأولئك الأتباع يمكن أن يستديروا بسهولة ويرسلون الرسالة إلى الآخرين. ضمن هذه الحالة، نجد السلطة والقوّة التقليدية المسيطرة على المؤسسات الدينية ورجالها ستميل إلى الضعف والتحول ! وفي عملية العولمة الدينية، تظهر السوق الدينية الموجهة من قبل المستعمل، إلى جانب نظام المنتج الموجه ! والأخير يعنى تحديدا، استمرار السلطة الدينية التقليدية في المحافظة على تعاليم وشعائر وتقاليد كل دين، فيقوم الكهنة، والشيوخ والرهبان، الوعاظ، والقساوسة والحاخامات بترجمة وتفسير وتأويل المعلومات الدينية إلى المؤمنين، و على المؤمنين فقط أن يقبلوا تلك الترجمة وذلك التفسير والتأويل، فهو دورهم الوحيد المقبول في هذا الوضع، وعلى الجانب الآخر نجد السوق الدينية الموجهة من قبل المستعمل، ونعنى بها استجابة الشخص لقيمه الشخصية وأحاسيسه ومشاعره، وأفكاره واختياراته، ويفكر مليا، ويختبر ويجرب تلك العناصر التي يجدها مناسبة وأكثر جاذبية من كتلة الأديان المتنافسة المعروضة عليه من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصال ! وهذا السلوك من منظور نظام المنتج الموجه مركزيا، يقيم كعدم جدية دينية واستخفاف، أو تردّد وضعف في الإيمان ويصل إلى حد التكفير، لكنه منطقي فقط من وجهة نظر المستعمل الديني، الذي يجد حقه في المحاولة لاختيار أفضل البدائل القائمة على المنطق والعقل! وعلى هذا الأساس تصبح الفروق بين المرسل للمعلومات الدينية، وبين مستقبل المعلومات الدينية، فروقا غير واضحة وغامضة، حتى الفروق ذاتها بين الزعيم الديني، والتابع الديني، من المحتمل أيضا تصبح غامضة جدا، وغير مميزه في عصر المعلومات ! حيث يخسر المحترفين الدينيين سلطتهم وهيبتهم التقليدية . وأصبح المؤمنون العاميّون الآن عندهم القدرة المتزايدة على الوصول للمعلومات الدينية والاستفادة منها، حتى تلك المعلومات الباطنية او الأسرار في بعض الأديان الغير مسموح لأحد معرفتها ماعدا رجال الدين المخوّلين خصّيصا. خلاصة القول ان عصر المعلومات يؤدّي إلى انعدام المسافة بين المحترفين الدينيين والأتباع العاميّين، ولم يعد ذلك حالة استثنائية أن نجد ناس عاديين يمتلكون فهم أعمق لفلسفة الأديان أكثر من الكهنة، والشيوخ والرهبان، الوعاظ، والقساوسة، والحاخامات ! و على الأرجح هذه النزعة ستَتَنَامَي في المستقبل، ففي مجتمع المعلومات عموما ستزول الفروق بين أهل الخبرة المتخصصين والأفراد العاديين ! ومعنى هذا التطور أنّ الأديان التاريخية التقليدية،والأديان السماوية من المحتمل ان تجد صعوبة لتطوير أنظمة لتدريب أجيال جديدة من المحترفين الدينيين. ولن يستطيع اى مذهب او مجموعة داخل اى دين إدّعاء الشرعية الدينية الفريدة، أو إدعاء ملكية الحقيقة المطلقة ! بل يتزايد أعداد الناس في عصر المعلومات الذين ينظرون إلى الخطاب الديني في اى دين من خلال منظور نقدي، ورؤية نسبية !

التكفيريون والإعلام

في عصر الإعلام والسموات المفتوحة والإنترنت لا يستطيع أى دين السيطرة على قصصه او رموزه !؟ في الماضى كانت السلطة الدينية تستطيع تقريبا ان تتحكم في كيف ؟ وأين ؟ومتى ؟ تظهر الأفكار والرموز والادعاءات والأسرار الدينية على السطح، وكان في إمكانها حماية تراثها من نصوص ورموز مقدسة، وتفاسير وشرائع من التفحص والنقد العلمانى. اليوم القيادات الدينية من كافة الأديان لا تستطيع السيطرة على أى انتهاك للرموز الدينية التى تمتلئ بها الإنترنت والفضائيات وبقية وسائل الإعلام، نتيجة لعمليات العولمة، والممارسات الإعلامية الفورية البصرية، بل لم يعد في إمكان السلطات الدينية الاحتفاظ بأسرارهم الخاصة، وتحديدا أسرار الانحرافات والفساد في المؤسسات الدينية ! وتقريبا كل الذي نعرفه حول القيم والروحانيات والمعتقدات الدينية للآخرين نعرفها اليوم من أجهزة الإعلام المختلفة بما فيها الإنترنت، وربما يكون لدينا الوقت والاهتمام للتفحص والحفر بعمق في عقائدهم وممارساتهم الدينية، لكن هل في الإمكان ان نقيم ونصنف معتقدات الآخرين الدينية بدون أن نتأثر بالمعلومات المتعمدة التى حملتها لنا وسائل الإعلام عن معتقداتهم ؟! الحقيقة لقد أصبحت وسائل الإعلام في مركز التجربة الدينية لكل الأديان، وفي نفس الوقت أصبح الدين جزء جوهري من الثقافة الإعلامية التى تجعلنا نستكشف طرقا متنوعة للممارسات الروحية والدينية.

وازعم هنا انه رغم أهمية الدور الإعلامي في فضح التكفيريين، فأن أهداف أخرى لهم تتحقق بنجاح شديد من خلال التركيز الإعلامي على خطاب التكفير ، حيث تصل رسالة التكفير للجميع ! وأزعم أيضا أنه بتلك الضجة الإعلامية التي تحدث حول قضايا التكفير يتم تحقيق واستكمال جميع أهداف التكفيريين الإستراتيجية ، فالاحتكام إلى الرأي العام المهووس دينيا، والتأثير عليه قد يعزز أفعال التكفيريون ! ويعزز أيضا الفعل الإرهابي. والتكفيري عادة يعتبر وسائل الإعلام هى سلاحه الرئيسي، وإنها تلعب دورا محوريا لصالحة عندما تغطى قضايا التكفير تغطية واسعة، فالتكفيريون يريدون الشهرة ، والإعلام، والإعلان المجاني عنهم الذي توفره لهم وسائل الإعلام عند تغطيتها لقضايا التكفير، ويصبحون بعدها شخصيات معروفة، وصورهم وأحاديثهم منتشرة، وهى بمثابة اعتراف رسمي وإعلامي بوجودهم، ولا يستطيع أحد ان يتجاهلهم، وبعدها يصبح اى حديث عن عدم الحوار معهم ليس له معنى. فالمقابلات الإعلامية الحية مع التكفيريون تعتبر جائزة ومكافأة لهم عن أفعالهم. فوسائل الإعلام عندما تجرى مقابلات حية وأحاديث صحفية مع التكفيريين ، تقدم لهم الفرصة لكى يتفهم الجمهور الأسباب والدوافع التى دفعتهم لذلك، فينشأ تفهم مادح لأسبابهم، و توفر وسائل الإعلام بدون قصد لعامة الناس الذين على استعداد للتجاوب مع أسباب ودوافع التكفيريين الفرص الكاملة للتعاطف معهم وتفهم أسبابهم، وهنا يظهر العنف والقتل ضد الآخر المختلف، خاصة، وأن قطاع عريض من المجتمع المصرى أكثر غلوا وتشددا بالدين من حكومتة. وهذا لا يلغي مسؤولية الحكومة التى غضت الطرف عن إغراق المجتمع بسيل من الفتاوى الدينية، وتخويفه من اي فكر ناقد، وشحنه بقدر هائل من التعصب والكراهية. ولن تنجح أى محاولة للتغيير، الا بتدخل ودعم جدى من الحكومة.

وفي نهاية تلك العجالة، لا يسعنا ألا إن نضم صوتنا إلى البيان الذي أصدره عدد من المثقفين المصريين والعرب يشجبون فيه حملات التكفير ضد المفكرين والمثقفين، ويدعون الدولة المصرية إلى تحمل مسؤوليتها في الوقوف بوجه شيوع التكفير وحماية المفكرين المصريين.

المستشــار
07-12-2009, 10:53 PM
انك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء




لك خاص التحية