الجشعمي
25-10-2009, 08:04 PM
ما من مرة استمعت أو شاهدت برنامجاً من برامج الفتاوى، المنتشرة على الفضائيات والإذاعات العربية، إلا واتصل أحد المستمعين أو المشاهدين وسأل سؤالا مفاده: هل المصافحة حلال أم حرام؟ وهل هذه المصافحة تجوز مع ارتداء قماش حاجب كالقفازات؟ وهل تنقض الوضوء أم لا تنقضه، ومن هم المحارم الذين تجوز مصافحتهم؟.. وما إلى ذلك من هواجس تقض مضاجع المسلمين، كان من بينهم من سأل أن ابنة عمة أمه في السبعين من العمر تقبّله أثناء السلام عليه، فهل يجوز ذلك؟؟
وغالبا ما يجيب المفتي بإجابة أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب، وهي أن الأصل في الوجود هو الإباحة وأن الممنوعات هي قليلة، وفيما يتعلق بالمصافحة فقد أفتى الامام أبو حنيفة بكذا وكذا وأفتى الامام الشافعي بكذا وكذا وأفتى الامام مالك بكذا وكذا عليهم السلام جميعا، ثم ينهي كلامه في الأغلب الأعم بتحريم المصافحة وعدم جوازها طلباً للأمان والسلامة.
الأمر نفسه يتكرر مع الموسيقى والغناء، ويتكرر السؤال كل يوم: هل سماع الموسيقى ومشاهدة الاغاني حلال أم حرام؟ وهل الفن حلال أم حرام؟ فيفتي البعض بجواز الإنشاد بدون آلات موسيقية، وإذا كان لا بد للمنشد من الموسيقى فيُكتفى بالدفوف. ويفتي البعض الآخر بشرعية الغناء حتى مع وجود الآلات الموسيقية، كما هو الحال مع الشيخ يوسف القرضاوي الذي يقول إنه ينظر إلى الغناء نظرة جادة إذا كان الغناء جاداً وأن الأصل في الوجود هو الإباحة خصوصاً الطيبات، فإذا كان الغناء طيبا وكلماته طيبة فلا ضير في ذلك مع وجود الضوابط في الموضوع وطريقة الأداء. كذلك تخبرنا سيرة الشيخ جلال الدين الحنفي إمام جامع الخلفاء ببغداد، والمعروف بتنوّره واعتداله، أنه كان محباً لتعلم اللغات والاستماع إلى الموسيقى، ويذكر الباحث رشيد الخيون كيف أن الشيخ الحنفي تعرض للنقد على اهتمامه بالموسيقى، والذي تعدى الاستماع إليها إلى التعلم على عزفها عندما انتمى في العام 1940 الى معهد في الموسكي بمصر لتعلم العزف على العود، ويورد نقلا عن صديقه الرشودي أن هذا الصنيع يدل على أن الشيخ يرى رأي أبي حامد الغزالي في حلية السماع ما دام لا يشغلك عن عبادة ربك ولا يدعو الى المجون أو الفجور وأن الغناء ما هو إلا محاكاة لعندلة البلابل وهديل الحمائم وزقزقة العصافير. كما يورد الكاتب رأياً مشابهاً لعالم دين معاصر من أائمة الشيعة، هو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في أن الغناء، سواء رافقته آلات الطرب الموسيقي أم لا، مباح ما لم يستخف السامع الى حد يخرج به عن الكمال.
إن هذا الاعتدال، الذي يتسم به فقهاء متنورون يجعلون في الدين فسحة من التفاؤل والأمل والفرح وينأوْن به عن اليأس والتجهّم والعبوس، يجعلنا نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى في الطرف الآخر من هذه المعادلة حيث يقف الرأي المتشدد من الموسيقى، ذلك الذي حجب جائزة الإنشاد العالمية عن سامي يوسف لأن القائمين على الجائزة كانت لهم ملاحظات شرعية على فنه فيما يتعلق باستخدامه الموسيقى التي لا يوافق عليها الإسلام برأيهم. كما نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى متطرفة ومتشنجة بحق المرأة نجدها غريبة عن الإسلام، هذا الدين الثائر الذي جاء ليمنح المرأة حقوقاً ما كانت لتخطر على بال الرجال، وليقول إن النساء شقائق الرجال وإنهما خُلقا من نفس واحدة وإن للمرأة الأهلية للإرث والتملك والتصرف بأملاكها والتعليم واتخاذ القرار في شؤون حياتها من زواج وطلاق، بل إن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. لكن من الرجال من ظلوا ولا يزالون يقاومون هذا الوضع الجديد ويمارسون قمعهم لهذا الكائن الرقيق ويغالون باعتباره فضيحة يجب التستر عليها وإخفاؤها عن الناس بأغرب الوسائل وأكثرها قسوة، كالبرقع أو النقاب الذي وصل الى وجوه النساء من الحجيج في التفاف واضح على الدين والسُّنة النبوية الشريفة وعلى الملابس المخصصة للإحرام أداء مراسم الحج.
هذا البرقع أو النقاب يستشري، الأسود منه خصوصاً، بشكل غير مسبوق على وجوه النساء العربيات من المحجبات وفي مناطق معروفة من الجزيرة والخليج العربي، ولا أدري كيف سمح أصحاب الفتاوى الشرعية والفقهاء بانتشاره وجعله جزءاً حلالاً ومكملاً للحجاب، وهو الذي يسيء إلى صورة الرجل المسلم قبل المرأة المسلمة، ويقدمه بصورة غير إنسانية باعتباره وحشاً كاسراً لا يفكر بغير رغباته الحيوانية، وهو غير مسيطر عليها إلى الدرجة التي تجعل المرأة تمشي في الشارع ووجودها الإنساني ملغًى تماماً لكي لا يغوي وجهها هذا الوحش الكاسر أو يفتنه. وهنا أيضا تتكرر الملاحظة حول رجال الفتاوى في تلك البرامج الدينية، من الذين تطفو رجولتهم على السطح فيفتون بأنه لا ضير من ارتداء البرقع ويشجعون النساء على ارتدائه، متجاهلين الحديث النبوي الشريف بإظهار الكف واليدين، ومتطاولين على عباد الله الذين هم أمانة في أعناقهم، وعلى صورة الإسلام والمسلمين التي يجب أن ينقيها هذا المفتي من الشوائب لا أن يسمح لتعصبه الشخصي على تشويهها تحت شعار الدين والتقوى. ولو دخلت على أي موقع إسلامي للفتاوى الدينية لدخت وشاب رأسك من آلاف الإحالات والمصادر التي ينحتها كل واحد منهم حسب عصبيته وفهمه ودرجة انفتاحه أو تشدده.
التشدد الآخر الذي بدأ يستشري في مجتمعاتنا هو ارتداء الحجاب من فتيات صغيرات لا زلن بعدُ في سن اللهو والطفولة، وأذكر في هذا الصدد أبنة جارتي التي رأيتها ذات يوم وهي تلهو وتلعب مع صويحباتها مرتدية فانيلة وسروالاً قصيراً(شورت) من الذي يرتديه الأطفال الصغار، وفي اليوم التالي وجدتها ترتدي (الإيشارب) على شعرها وقميصاً عريضا يستر جسمها النحيف الصغير. ولما سألتها عن السبب قالت إن أختها أخافتها من السفور وحدثتها بأنها ستُحرق بالنار إنْ لم تتحجب.
هنا يجب أن نعترف ونقول إن (حرب الملابس الفاضحة) التي تشنها بعض الفضائيات، والابتذال الإعلامي الذي تمارسه، مع سبق الاصرار والترصد، القنوات التي تتحدى التقاليد، هو سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار مثل هذه الظواهر والرؤى المتشددة، وهو أيضاً يجعلنا نتعاطف مع قوانين الرقابة التي بدأت الحكومات تلوّح بها بوجه من أساء استخدام الحريات، وبعضهم، مع الأسف، من المخرجين المرضى والنجمات الفنانات اللواتي يقضين حياتهن الفنية في خرق العادات والتقاليد ثم يقررن فجأة الاعتزال والحج وارتداء الحجاب. ولكن أليست أجواء الحريم التي يوحي بها البرقع الأسود والعباءة السوداء هي أيضا من المظاهر الحسية التي تحيل إلى المخادع وامتلاك الرجل لهذه المراة كجسد للمتعة ليس إلا؟ وأليس ذلك المفهوم الحسي للمرأة المسلمة، هو ما ركز عليه المستشرقون في اختيارهم للموضوعات واللوحات المأخوذة من قصور السلاطين مدفوعين بعنصر الإثارة التي أصبحت تمثله كلمة الحريم؟
إننا مع الأسف لا زلنا نعيد ونكرر مادعا اليه قاسم أمين ورواد النهضة من الإصلاحيين قبل مئة عام من الآن، ولا زال حالنا مثل سيارة (تعتعت)، مرة تتوقف ومرة تمشي إلى الامام ومرة ترجع إلى الخلف.... ففي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي قال الزهاوي وهو الشاعر الجريء، صاحب (ثورة الجحيم) الخارجة عن المألوف:
اسفري يا ابنة فهر، فالحجا بُ داء في الاجتماع وخيم
كل شيء إلى التجدد ماض فلماذا يقـر هذا القديـم؟
ثم تراجع عن دعوته إلى السفور بسبب ثورة رجال الدين ضده وضد آرائه ممن أسماهم مجايله الشاعر الرصافي، الذي لا يقل جرأة عنه، ببوليس السماء. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية فأحس الناس بجمال الحياة وانفتح العالم على ثورة في الأدب والفن والأزياء، وصلت إلينا في الستينيات فأصبح السفور مظهراً من مظاهر الرقي الاجتماعي، وأصبحت حفلات أم كلثوم التي نشاهدها الآن في أغاني زمان قادمة من زمان المستقبل وليس الماضي، إذ لا تجد في الحضور امرأة واحدة ترتدي الحجاب. وفي السبعينيات بلغ الانفتاح مدًى غير معقول ولا مقبول، مع ظهور الميني جيب والسراويل النسائية وقصّات الشعر الرجالية وملابسهم المتأثرة بالهيبيز والبيتلز وما إلى ذلك من صرعات. ثم عادت الأمور إلى التوازن في الثمانينيات، ومع بدء الحروب والاضطرابات في الوطن العربي، عادت ظاهرة الحجاب من جديد، فانتشرت مثل انتشار النار في الهشيم، وتفاقمت أشكالها فوق رؤوس النساء، حين أصبحت على شكل عمائم ولفّات غريبة عجيبة، وانتهت، كما أشرنا قبل قليل، الى رؤوس البنات الصغيرات ممن لا وعي لديهن ولا حيلة ويُربَّيْن منذ الصغر على كبح تلقائية الخلقة وإخفاء الضحكة والابتسامة والقوة والرأي الجريء، فهذه كلها فضائح يجب التستر عليها ووأدها منذ نعومة الأظافر.ان القول بانتقاد هذه المظاهر لا يأتي من اعتدال الدين الاسلامي وسماحته فحسب، وإنما من إحكام العقل والحس السليم الذي يقول إن حجاب العقل هو الذي يحول الرجال من وحوش كاسرة، إن كانوا كذلك، إلى بشر، وثقافة المرأة هي التي تحولها من حرمة الى إنسانة محترمة في المجتمع، وهي التي تصونها من الخطأ
.
وغالبا ما يجيب المفتي بإجابة أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب، وهي أن الأصل في الوجود هو الإباحة وأن الممنوعات هي قليلة، وفيما يتعلق بالمصافحة فقد أفتى الامام أبو حنيفة بكذا وكذا وأفتى الامام الشافعي بكذا وكذا وأفتى الامام مالك بكذا وكذا عليهم السلام جميعا، ثم ينهي كلامه في الأغلب الأعم بتحريم المصافحة وعدم جوازها طلباً للأمان والسلامة.
الأمر نفسه يتكرر مع الموسيقى والغناء، ويتكرر السؤال كل يوم: هل سماع الموسيقى ومشاهدة الاغاني حلال أم حرام؟ وهل الفن حلال أم حرام؟ فيفتي البعض بجواز الإنشاد بدون آلات موسيقية، وإذا كان لا بد للمنشد من الموسيقى فيُكتفى بالدفوف. ويفتي البعض الآخر بشرعية الغناء حتى مع وجود الآلات الموسيقية، كما هو الحال مع الشيخ يوسف القرضاوي الذي يقول إنه ينظر إلى الغناء نظرة جادة إذا كان الغناء جاداً وأن الأصل في الوجود هو الإباحة خصوصاً الطيبات، فإذا كان الغناء طيبا وكلماته طيبة فلا ضير في ذلك مع وجود الضوابط في الموضوع وطريقة الأداء. كذلك تخبرنا سيرة الشيخ جلال الدين الحنفي إمام جامع الخلفاء ببغداد، والمعروف بتنوّره واعتداله، أنه كان محباً لتعلم اللغات والاستماع إلى الموسيقى، ويذكر الباحث رشيد الخيون كيف أن الشيخ الحنفي تعرض للنقد على اهتمامه بالموسيقى، والذي تعدى الاستماع إليها إلى التعلم على عزفها عندما انتمى في العام 1940 الى معهد في الموسكي بمصر لتعلم العزف على العود، ويورد نقلا عن صديقه الرشودي أن هذا الصنيع يدل على أن الشيخ يرى رأي أبي حامد الغزالي في حلية السماع ما دام لا يشغلك عن عبادة ربك ولا يدعو الى المجون أو الفجور وأن الغناء ما هو إلا محاكاة لعندلة البلابل وهديل الحمائم وزقزقة العصافير. كما يورد الكاتب رأياً مشابهاً لعالم دين معاصر من أائمة الشيعة، هو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في أن الغناء، سواء رافقته آلات الطرب الموسيقي أم لا، مباح ما لم يستخف السامع الى حد يخرج به عن الكمال.
إن هذا الاعتدال، الذي يتسم به فقهاء متنورون يجعلون في الدين فسحة من التفاؤل والأمل والفرح وينأوْن به عن اليأس والتجهّم والعبوس، يجعلنا نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى في الطرف الآخر من هذه المعادلة حيث يقف الرأي المتشدد من الموسيقى، ذلك الذي حجب جائزة الإنشاد العالمية عن سامي يوسف لأن القائمين على الجائزة كانت لهم ملاحظات شرعية على فنه فيما يتعلق باستخدامه الموسيقى التي لا يوافق عليها الإسلام برأيهم. كما نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى متطرفة ومتشنجة بحق المرأة نجدها غريبة عن الإسلام، هذا الدين الثائر الذي جاء ليمنح المرأة حقوقاً ما كانت لتخطر على بال الرجال، وليقول إن النساء شقائق الرجال وإنهما خُلقا من نفس واحدة وإن للمرأة الأهلية للإرث والتملك والتصرف بأملاكها والتعليم واتخاذ القرار في شؤون حياتها من زواج وطلاق، بل إن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. لكن من الرجال من ظلوا ولا يزالون يقاومون هذا الوضع الجديد ويمارسون قمعهم لهذا الكائن الرقيق ويغالون باعتباره فضيحة يجب التستر عليها وإخفاؤها عن الناس بأغرب الوسائل وأكثرها قسوة، كالبرقع أو النقاب الذي وصل الى وجوه النساء من الحجيج في التفاف واضح على الدين والسُّنة النبوية الشريفة وعلى الملابس المخصصة للإحرام أداء مراسم الحج.
هذا البرقع أو النقاب يستشري، الأسود منه خصوصاً، بشكل غير مسبوق على وجوه النساء العربيات من المحجبات وفي مناطق معروفة من الجزيرة والخليج العربي، ولا أدري كيف سمح أصحاب الفتاوى الشرعية والفقهاء بانتشاره وجعله جزءاً حلالاً ومكملاً للحجاب، وهو الذي يسيء إلى صورة الرجل المسلم قبل المرأة المسلمة، ويقدمه بصورة غير إنسانية باعتباره وحشاً كاسراً لا يفكر بغير رغباته الحيوانية، وهو غير مسيطر عليها إلى الدرجة التي تجعل المرأة تمشي في الشارع ووجودها الإنساني ملغًى تماماً لكي لا يغوي وجهها هذا الوحش الكاسر أو يفتنه. وهنا أيضا تتكرر الملاحظة حول رجال الفتاوى في تلك البرامج الدينية، من الذين تطفو رجولتهم على السطح فيفتون بأنه لا ضير من ارتداء البرقع ويشجعون النساء على ارتدائه، متجاهلين الحديث النبوي الشريف بإظهار الكف واليدين، ومتطاولين على عباد الله الذين هم أمانة في أعناقهم، وعلى صورة الإسلام والمسلمين التي يجب أن ينقيها هذا المفتي من الشوائب لا أن يسمح لتعصبه الشخصي على تشويهها تحت شعار الدين والتقوى. ولو دخلت على أي موقع إسلامي للفتاوى الدينية لدخت وشاب رأسك من آلاف الإحالات والمصادر التي ينحتها كل واحد منهم حسب عصبيته وفهمه ودرجة انفتاحه أو تشدده.
التشدد الآخر الذي بدأ يستشري في مجتمعاتنا هو ارتداء الحجاب من فتيات صغيرات لا زلن بعدُ في سن اللهو والطفولة، وأذكر في هذا الصدد أبنة جارتي التي رأيتها ذات يوم وهي تلهو وتلعب مع صويحباتها مرتدية فانيلة وسروالاً قصيراً(شورت) من الذي يرتديه الأطفال الصغار، وفي اليوم التالي وجدتها ترتدي (الإيشارب) على شعرها وقميصاً عريضا يستر جسمها النحيف الصغير. ولما سألتها عن السبب قالت إن أختها أخافتها من السفور وحدثتها بأنها ستُحرق بالنار إنْ لم تتحجب.
هنا يجب أن نعترف ونقول إن (حرب الملابس الفاضحة) التي تشنها بعض الفضائيات، والابتذال الإعلامي الذي تمارسه، مع سبق الاصرار والترصد، القنوات التي تتحدى التقاليد، هو سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار مثل هذه الظواهر والرؤى المتشددة، وهو أيضاً يجعلنا نتعاطف مع قوانين الرقابة التي بدأت الحكومات تلوّح بها بوجه من أساء استخدام الحريات، وبعضهم، مع الأسف، من المخرجين المرضى والنجمات الفنانات اللواتي يقضين حياتهن الفنية في خرق العادات والتقاليد ثم يقررن فجأة الاعتزال والحج وارتداء الحجاب. ولكن أليست أجواء الحريم التي يوحي بها البرقع الأسود والعباءة السوداء هي أيضا من المظاهر الحسية التي تحيل إلى المخادع وامتلاك الرجل لهذه المراة كجسد للمتعة ليس إلا؟ وأليس ذلك المفهوم الحسي للمرأة المسلمة، هو ما ركز عليه المستشرقون في اختيارهم للموضوعات واللوحات المأخوذة من قصور السلاطين مدفوعين بعنصر الإثارة التي أصبحت تمثله كلمة الحريم؟
إننا مع الأسف لا زلنا نعيد ونكرر مادعا اليه قاسم أمين ورواد النهضة من الإصلاحيين قبل مئة عام من الآن، ولا زال حالنا مثل سيارة (تعتعت)، مرة تتوقف ومرة تمشي إلى الامام ومرة ترجع إلى الخلف.... ففي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي قال الزهاوي وهو الشاعر الجريء، صاحب (ثورة الجحيم) الخارجة عن المألوف:
اسفري يا ابنة فهر، فالحجا بُ داء في الاجتماع وخيم
كل شيء إلى التجدد ماض فلماذا يقـر هذا القديـم؟
ثم تراجع عن دعوته إلى السفور بسبب ثورة رجال الدين ضده وضد آرائه ممن أسماهم مجايله الشاعر الرصافي، الذي لا يقل جرأة عنه، ببوليس السماء. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية فأحس الناس بجمال الحياة وانفتح العالم على ثورة في الأدب والفن والأزياء، وصلت إلينا في الستينيات فأصبح السفور مظهراً من مظاهر الرقي الاجتماعي، وأصبحت حفلات أم كلثوم التي نشاهدها الآن في أغاني زمان قادمة من زمان المستقبل وليس الماضي، إذ لا تجد في الحضور امرأة واحدة ترتدي الحجاب. وفي السبعينيات بلغ الانفتاح مدًى غير معقول ولا مقبول، مع ظهور الميني جيب والسراويل النسائية وقصّات الشعر الرجالية وملابسهم المتأثرة بالهيبيز والبيتلز وما إلى ذلك من صرعات. ثم عادت الأمور إلى التوازن في الثمانينيات، ومع بدء الحروب والاضطرابات في الوطن العربي، عادت ظاهرة الحجاب من جديد، فانتشرت مثل انتشار النار في الهشيم، وتفاقمت أشكالها فوق رؤوس النساء، حين أصبحت على شكل عمائم ولفّات غريبة عجيبة، وانتهت، كما أشرنا قبل قليل، الى رؤوس البنات الصغيرات ممن لا وعي لديهن ولا حيلة ويُربَّيْن منذ الصغر على كبح تلقائية الخلقة وإخفاء الضحكة والابتسامة والقوة والرأي الجريء، فهذه كلها فضائح يجب التستر عليها ووأدها منذ نعومة الأظافر.ان القول بانتقاد هذه المظاهر لا يأتي من اعتدال الدين الاسلامي وسماحته فحسب، وإنما من إحكام العقل والحس السليم الذي يقول إن حجاب العقل هو الذي يحول الرجال من وحوش كاسرة، إن كانوا كذلك، إلى بشر، وثقافة المرأة هي التي تحولها من حرمة الى إنسانة محترمة في المجتمع، وهي التي تصونها من الخطأ
.