الجشعمي
25-10-2009, 07:03 PM
تتكدس في أروقة التاريخ العراقي أفظع صور الاحتراب الداخلي والانقسام الناشئ عن غياب الوعي والرغبة بالانتماء المشترك لدى جميع الأطراف. ولا ريب في أن فرضية التاريخ المشترك والمصير الواحد، تمثّل أكبر إسهام أيديولوجي لتزييف هذا الواقع، وأسوأ استخدام لمطلب التعايش النبيل لأغراض سياسية مُريبة تضاد مستقبل الحياة المشتركة ذاتها، ويُراد به عادة المصادرة على الخيارات الأخرى لتقرير المصير. علاوة على ذلك، فإن هذه الرؤية المسبقة تكرّس أسوأ الأسس لفهم واقع العراقيين ومستقبلهم، وتطيح بكل الطرق المحتملة الأخرى لإدراك الموقف.
بوجه عام، فإن إقحام المجموعات القومية والعرقية، وحتى المذهبية، في هذا الكيان السياسي القائم، أو المجال الجيوسياسي، لم يكن قط خياراً عراقياً في يوم من الأيام، وذلك لسببٍ بديهي جداً، هو غياب الإرادة العراقية المشتركة قبل التأسيس للكيان العراقي، فلا يعقل للإرادة أو الوعي بالاختيار أن يكون سابقاً على الوجود. وهذا يعني، استطراداً، إن إرادة التأسيس كانت إرادة تاريخية متغطرسة واعتباطية إلى حدّ كبير، خارجية ومفارقة للعناصر الجزئية التي ستشكل الواقع العراقي لاحقاً. من هنا فالحديث عن الصراع الأيديولوجي والسياسي بين المكونات المختلفة بوصفه صراعاً عارضاً أو طارئاً على التاريخ المشترك يعدّ فرضاً متخماً بالتفاؤل المضلل، ويتجاهل كلياً الجذور التاريخية والواقعية للانقسام القائم.
لا يتأسس الوعي بالهوية المشتركة على الادعاء الأيديولوجي الكاذب بوحدة التاريخ والمصير، وإنما يلزم عن اختيار حرّ وعن منفعة مشتركة. وليس ثمة حاجة واقعية للاتكاء على وهم الانسجام والتماثل بين المختلفين في المصالح والرؤى للحدّ من الانقسام وحالة التصدع المجتمعي في السطح والعمق. و لربما تكون النتائج أقلّ سوءاً في الحالة المعاكسة، حالة الاعتراف بالتناقضات القائمة في المصالح والانتماءات.
فشلت النظم السياسية، التي توالت على حكم العراق، في خلق وعيّ عمومي مشترك بالهوية الوطنية وتنميته، لأنها في أغلب الأحيان أصبحت طرفاً رئيساً في إثارة الشقاق والانقسام. وقد تغافلت عن واقع تعدد الانتماءات( قبل الوطنية) لدى المجموعات، لا من خلال حيادية موقفها السياسي بصفتها سلطة حاكمة ممثلة لمصالح العموم، وإنما عبر القمع والقهر السياسيين، ومحاولة فرض نموذج سياسي وأيديولوجي معين ، دون غيره، على الجميع، وعدّها هذا النموذج مصيراً حتمياً للكل، زاعمة أنها النموذج الفريد الأمثل للهوية. وبهذه الطريقة تلاشت إمكانية التفاعل الحرّ والاندماج بين تلك المكونات المتنوعة.
بإزاء ذلك نجح النظام السياسي، الذي اتخذ من أسوأ أشكال الأيديولوجيات العرقية عتبة لصعوده، في ترسيخ ثقافة الكراهية والارتياب بين الجميع، وعمّق لديهم الشعور بالانعزال والحقد المتبادل. وبهذا الحسبان يعدّ نظام الاستبداد الأبّ الشرعي الذي دشّن الأسس للمواجهات الطائفية والعرقية التي ظهرت لاحقاًً وانتشرت بشكل وحشي ومروّع.
وما يبدو جلياً لنا اليوم، إن تصنيف الأفراد في المجتمع على أساس هوياتهم الدينية والمذهبية مازال راسخاً، وبغياب ثقافة المواطنة والمساواة يشكل ذلك قاعدة للصراع المتبادل والاحتراب. وتغدو العلاقة بين المكونات الرئيسة في المجتمع أكثر قسوة وعنفاً.
إن النتائج المروعة لهذا التصنيف، الذي كان حصاده آلاف الجماجم والأشلاء المتفحمة، تشير بوضوح إلى وهن الاعتقاد بالانتماء المشترك والوعي بالمصير لدى جميع الأطراف. وقد كرّست لديهم، أكثر فأكثر، الشعور بالاختلاف والتمايز، وعززت لديهم، بصورة أقوى من ذي قبل، التمركز حول الذات، والانتماء لهويات انعزالية وعدوانية. وقد صاحب ذلك استحضار كل القوى الرمزية والأساطير والميراث الطائفي والعرقي، التي شكلت مصدراً ثرّاً للعنف والترويع، من جوف التاريخ لتبرير المواجهات وشرْعنة هذا النزاع.
لم يكن ممكناً تكريس هذا التصنيف إلا بوجود سلطة الاستبداد العنصري، التي اتخذت من نمط أيديولوجي معين، عرقي وديني، واجهة لممارساته السياسية. وبموازاة ذلك لجأت إلى القهر والاستبعاد والإقصاء بحق الانتماءات الأخرى، التي عمدت بالمقابل إلى التخندق والانغلاق حول ذاتها لمقاومة هذا العدوان الأيديولوجي، وأصبح الإصرار على هويتها نوعاً من ميكانيزمات الدفاع الذاتي وأسلوباً لإثبات الوجود.
لا تزال هذه الممارسات الأيديولوجية تطبع الدولة العراقية بطابعها، إلى حدّ كبير، وتكتنف نظامها الدستوري حتى بعد سقوط نظام الاستبداد. وذلك بقبولها غير المشروط بهويّة دينية ومذهبية وامتياز مكانتها الفريدة، دون غيرها، التي قد تستخدم لتوجيه سلوك الدولة سياسياً نحو الصدام والمواجهة مجدداً مع الانتماءات الأخرى. ولعل محاولة استخدام مصطلحات ومفاهيم سياسية- دينية وعرقية لتعريف هوية الدولة دستوريّاً، ولتحديد مكانة دين أو مذهب أو عرق على حساب الهويات الأخرى تشكل أكبر مأزق سياسي وأيديولوجي أمام تحديث الدولة ودمقرطتها.
عندما يكون هناك فشل عام في القبول بهوية شاملة للدولة، إنما يعكس ذلك درجة التنازع والاختلاف في الوعي بالانتماء لدى جميع الأطراف. وفي هذه الحالة يبدو من غير الحكمة اللجوء إلى الدين أو المذهب أو العرق لتحديد هويّة الدولة. إن ما يجب أن تكون عليه هويّة الدولة حالئذ، هي أن تكون دولة المواطنة فحسب. مواطنة مجردة تماماً من أبعادها العرقية، ومن دلالاتها الدينية أو المذهبية، وتكون المساواة قاعدة للعلاقة الناظمة بين الذوات، بدلاً من التصنيف المذهبي أو الديني أو العرقي. وهذه الأولوية هي التي تضمن وعياً متعادلاً لدى الجميع بالانتماء المشترك والمصير. ويعني ذلك أن الجميع متماثلون من حيث الأهمية والمكانة والمسؤولية إزاء الدولة برغم تعددية هوياتهم، وانتماءاتهم الجزئية.
لايعني هذا الإقرار تجاهل واقع التعدديات القائمة أو إقصاءها. بل يقود إلى تحييد المجتمع السياسي والدولة نحوها، والاعتراف بها في حدود المجتمع المدني. والأمل الرئيس في عالم متنوع كهذا هو أن تؤول التعددية والاختلاف إلى الإثراء والتفاعل الحرّ والتعايش الخصب، بدلاً من أن تكون مصدراً للكراهية، والشقاق والتناحر.
بوجه عام، فإن إقحام المجموعات القومية والعرقية، وحتى المذهبية، في هذا الكيان السياسي القائم، أو المجال الجيوسياسي، لم يكن قط خياراً عراقياً في يوم من الأيام، وذلك لسببٍ بديهي جداً، هو غياب الإرادة العراقية المشتركة قبل التأسيس للكيان العراقي، فلا يعقل للإرادة أو الوعي بالاختيار أن يكون سابقاً على الوجود. وهذا يعني، استطراداً، إن إرادة التأسيس كانت إرادة تاريخية متغطرسة واعتباطية إلى حدّ كبير، خارجية ومفارقة للعناصر الجزئية التي ستشكل الواقع العراقي لاحقاً. من هنا فالحديث عن الصراع الأيديولوجي والسياسي بين المكونات المختلفة بوصفه صراعاً عارضاً أو طارئاً على التاريخ المشترك يعدّ فرضاً متخماً بالتفاؤل المضلل، ويتجاهل كلياً الجذور التاريخية والواقعية للانقسام القائم.
لا يتأسس الوعي بالهوية المشتركة على الادعاء الأيديولوجي الكاذب بوحدة التاريخ والمصير، وإنما يلزم عن اختيار حرّ وعن منفعة مشتركة. وليس ثمة حاجة واقعية للاتكاء على وهم الانسجام والتماثل بين المختلفين في المصالح والرؤى للحدّ من الانقسام وحالة التصدع المجتمعي في السطح والعمق. و لربما تكون النتائج أقلّ سوءاً في الحالة المعاكسة، حالة الاعتراف بالتناقضات القائمة في المصالح والانتماءات.
فشلت النظم السياسية، التي توالت على حكم العراق، في خلق وعيّ عمومي مشترك بالهوية الوطنية وتنميته، لأنها في أغلب الأحيان أصبحت طرفاً رئيساً في إثارة الشقاق والانقسام. وقد تغافلت عن واقع تعدد الانتماءات( قبل الوطنية) لدى المجموعات، لا من خلال حيادية موقفها السياسي بصفتها سلطة حاكمة ممثلة لمصالح العموم، وإنما عبر القمع والقهر السياسيين، ومحاولة فرض نموذج سياسي وأيديولوجي معين ، دون غيره، على الجميع، وعدّها هذا النموذج مصيراً حتمياً للكل، زاعمة أنها النموذج الفريد الأمثل للهوية. وبهذه الطريقة تلاشت إمكانية التفاعل الحرّ والاندماج بين تلك المكونات المتنوعة.
بإزاء ذلك نجح النظام السياسي، الذي اتخذ من أسوأ أشكال الأيديولوجيات العرقية عتبة لصعوده، في ترسيخ ثقافة الكراهية والارتياب بين الجميع، وعمّق لديهم الشعور بالانعزال والحقد المتبادل. وبهذا الحسبان يعدّ نظام الاستبداد الأبّ الشرعي الذي دشّن الأسس للمواجهات الطائفية والعرقية التي ظهرت لاحقاًً وانتشرت بشكل وحشي ومروّع.
وما يبدو جلياً لنا اليوم، إن تصنيف الأفراد في المجتمع على أساس هوياتهم الدينية والمذهبية مازال راسخاً، وبغياب ثقافة المواطنة والمساواة يشكل ذلك قاعدة للصراع المتبادل والاحتراب. وتغدو العلاقة بين المكونات الرئيسة في المجتمع أكثر قسوة وعنفاً.
إن النتائج المروعة لهذا التصنيف، الذي كان حصاده آلاف الجماجم والأشلاء المتفحمة، تشير بوضوح إلى وهن الاعتقاد بالانتماء المشترك والوعي بالمصير لدى جميع الأطراف. وقد كرّست لديهم، أكثر فأكثر، الشعور بالاختلاف والتمايز، وعززت لديهم، بصورة أقوى من ذي قبل، التمركز حول الذات، والانتماء لهويات انعزالية وعدوانية. وقد صاحب ذلك استحضار كل القوى الرمزية والأساطير والميراث الطائفي والعرقي، التي شكلت مصدراً ثرّاً للعنف والترويع، من جوف التاريخ لتبرير المواجهات وشرْعنة هذا النزاع.
لم يكن ممكناً تكريس هذا التصنيف إلا بوجود سلطة الاستبداد العنصري، التي اتخذت من نمط أيديولوجي معين، عرقي وديني، واجهة لممارساته السياسية. وبموازاة ذلك لجأت إلى القهر والاستبعاد والإقصاء بحق الانتماءات الأخرى، التي عمدت بالمقابل إلى التخندق والانغلاق حول ذاتها لمقاومة هذا العدوان الأيديولوجي، وأصبح الإصرار على هويتها نوعاً من ميكانيزمات الدفاع الذاتي وأسلوباً لإثبات الوجود.
لا تزال هذه الممارسات الأيديولوجية تطبع الدولة العراقية بطابعها، إلى حدّ كبير، وتكتنف نظامها الدستوري حتى بعد سقوط نظام الاستبداد. وذلك بقبولها غير المشروط بهويّة دينية ومذهبية وامتياز مكانتها الفريدة، دون غيرها، التي قد تستخدم لتوجيه سلوك الدولة سياسياً نحو الصدام والمواجهة مجدداً مع الانتماءات الأخرى. ولعل محاولة استخدام مصطلحات ومفاهيم سياسية- دينية وعرقية لتعريف هوية الدولة دستوريّاً، ولتحديد مكانة دين أو مذهب أو عرق على حساب الهويات الأخرى تشكل أكبر مأزق سياسي وأيديولوجي أمام تحديث الدولة ودمقرطتها.
عندما يكون هناك فشل عام في القبول بهوية شاملة للدولة، إنما يعكس ذلك درجة التنازع والاختلاف في الوعي بالانتماء لدى جميع الأطراف. وفي هذه الحالة يبدو من غير الحكمة اللجوء إلى الدين أو المذهب أو العرق لتحديد هويّة الدولة. إن ما يجب أن تكون عليه هويّة الدولة حالئذ، هي أن تكون دولة المواطنة فحسب. مواطنة مجردة تماماً من أبعادها العرقية، ومن دلالاتها الدينية أو المذهبية، وتكون المساواة قاعدة للعلاقة الناظمة بين الذوات، بدلاً من التصنيف المذهبي أو الديني أو العرقي. وهذه الأولوية هي التي تضمن وعياً متعادلاً لدى الجميع بالانتماء المشترك والمصير. ويعني ذلك أن الجميع متماثلون من حيث الأهمية والمكانة والمسؤولية إزاء الدولة برغم تعددية هوياتهم، وانتماءاتهم الجزئية.
لايعني هذا الإقرار تجاهل واقع التعدديات القائمة أو إقصاءها. بل يقود إلى تحييد المجتمع السياسي والدولة نحوها، والاعتراف بها في حدود المجتمع المدني. والأمل الرئيس في عالم متنوع كهذا هو أن تؤول التعددية والاختلاف إلى الإثراء والتفاعل الحرّ والتعايش الخصب، بدلاً من أن تكون مصدراً للكراهية، والشقاق والتناحر.