حورية البحر
04-10-2009, 12:43 PM
يتناول علم الاجتماع قضايا التنمية من منحيين متكاملين، يرمي الأول منهما إلى غايات نظرية تتلخص في الوقوف على طبيعة الظواهر الاجتماعية والنظم، وكيفية نشوئها وتطورها، إضافة إلى ما تؤديه من وظائف في إطار البنية الاجتماعية العامة. ويرمي الثاني إلى الكشف عن طريق الاستفادة من القوانين الاجتماعية الطبيعية في تحقيق المنافع المادية والمعنوية لمجموع السكان المقيمين الذين يؤلفون بمجملهم المجتمع المعني. والثاني هو ما يعرف عادة بالجانب التطبيقي لعلم الاجتماع، أو ما يسميه بعضهم علم الاجتماع التطبيقي، غير أن هذه التسمية قد تؤدي إلى ملابسات نظرية تجعل من الجانب التطبيقي لعلم الاجتماع ميداناً خاصاً من ميادينه المتعددة، كعلم الاجتماع الريفي والصناعي وغير ذلك. وحقيقة الأمر، أن لكل ميدان من هذه الميادين منحى نظرياً، وآخر تطبيقياً، الأمر الذي يجعل استخدام كلمة «الجانب التطبيقي» أو «المنحى التطبيقي» في علم الاجتماع أكثر سلامة من الناحية المنهجية من استخدام مفهوم «علم الاجتماع التطبيقي».
ويهتم الجانب التطبيقي في علم الاجتماع بدراسة أساليب الانتفاع من الحقائق النظرية والقوانين الاجتماعية الطبيعية في رسم السياسة التنموية وبرامجها من أجل تحقيق النقلة النوعية للمجتمعات والجماعات المدروسة.
ويعتمد المخطط والباحث في علم الاجتماع على محاور عدة، تتلخص بما يأتي:
ـ رسم الصورة الاجتماعية لعملية التغيير الاقتصادي والاجتماعي: ويكون ذلك بتحديد وجهة التغير الاجتماعي وكذلك التغيرات المقصودة المزمع إحداثها في البيئة الاقتصادية والتركيب الاجتماعي. إن تحديد الأهداف الاستراتيجية لعملية التنمية من الأمور التي يجب أن يعنى بها عالم الاقتصاد والاجتماع والسياسة. فالاختيار بين التصنيع والنشاط التجاري، أو التحول من أحدهما إلى الآخر، أو الوصول إلى المزيج الأفضل في مرحلة زمنية معينة، مسائل ترتبط بخلايا اقتصادية واجتماعية على حد سواء، وإن رسم الصورة الاجتماعية لعملية التغير الاقتصادي والاجتماعي تتعدى الأمور الاقتصادية لتتناول نوع الخدمات الاجتماعية، ونسبة زيادة الدخل القومي،وكيفية توزيعه، وسياسة محو الأمية، وتعميم الخدمات التعليمية وتحسينها، وربط التعليم والتدريب بخطط التنمية، وتوفير المناخ الاجتماعي المناسب لتفاعل الناس مع معطيات الشروط الجديدة للتقدم والوصول إلى عملية التشغيل الكامل، أي ضمان حق كل فرد في العمل، والقضاء على البطالة، ورفع مستويات العمالة في كل المناطق، والعمل على توفير الشروط الاجتماعية المناسبة التي تعمل على استقرار قوة العمل الوافدة، ودفعها إلى تكوين شريحة سكانية منصهرة في بوتقة المجتمع المحلي، وذلك في المجتمعات التي تتصف بندرة المهارات الفنية وضيق القاعدة السكانية، وباختصار فإن رسم الصورة الاجتماعية لعملية التغير الاقتصادي والاجتماعي تتمثل بتوفير الاحتياجات الاجتماعية للأفراد وربطها بشروط التقدم المتطورة من خلال رسم استراتيجية عامة للتنمية تتفاعل فيها الأهداف الاقتصادية مع الأهداف الاجتماعية في حركية مستمرة وموازنة دائمة بين الحاجات والإمكانات.
وتؤلف الموضوعات التالية تحديداً للعناصر الأساسية التي يمكن مناقشتها نقاط ارتكاز لبحوث اجتماعية في نطاق المحور الأول: تركيب القوى الاجتماعية الرئيسية في الوطن العربي وخصائصها، ومجتمعات «الأنهار» ومجتمعات «الأمطار»، والعلاقة بين النخبة الزراعية والصناعية، ومنحى التغير الاجتماعي وأنماطه، وتحديد بعض الأهداف الاجتماعية لعملية التغير: ويشمل تحديد الأهداف الاجتماعية لعملية التغير في البلاد العربية: نوع الخدمات الاجتماعية ومستواها، والعمالة والاستخدام، ومحو الأمية، وتوزيع الدخل ومسألة الموازنة بين العمل والأجر والتكامل الاجتماعي العربي، وتغير العلاقات الإنتاجية في الريف، والإصلاح الزراعي وآثاره الاجتماعية.
ـ توضيح الأساس الاجتماعي لعملية التنمية الاقتصادية: ويتم ذلك بتحليل الأوضاع الاجتماعية اللازمة لعملية التنمية. فالتعليم مثلاً الذي يعد شرطاً ضرورياً لعملية التنمية الاقتصادية يجب أن ينظر إلى تأثره بالوعاء الاجتماعي وتأثيره فيه، وبالتالي فإن سياساته يجب أن تأخذ في حسابها المتغيرات الاجتماعية والسكانية المختلفة التي تميز مجتمعاً من مجتمع آخر. وعند ذكر التعليم تجمل كل المراحل التعليمية ابتداء من دور الحضانة وانتهاء بالدراسات العليا، فهو استثمار، موضوعه الإنسان، يمر بمراحل متصلة تتعاقب آثارها. ويؤكد علماء التربية، والمتخصصون في ميادين التعليم ذلك التلازم بين التعليم والإنتاج تأكيداً يدفعهم إلى حد القول إن الثورة التقنية (التكنولوجية) ترتبط إلى حد بعيد بالثورة التعليمية. ويتضمن العمل الاجتماعي في مجال التعليم جملة من المسائل أهمها ما يتعلق بسياسة القبول في المعاهد والجامعات، التي يجب أن تستند إلى حاجات النشاطات الاقتصادية والاجتماعية من القوى العاملة من جهة، والأطر الاجتماعية والقاعدة السكانية من جهة ثانية، فقد يرى المخطط مثلاً خفض السن الإلزامية للتعليم وتقصير المراحل التعليمية في مجتمعات تبرز الحاجة فيها لأعداد متزايدة من الخريجين وتؤذيها الموارد البشرية المحدودة والقاعدة السكانية الضيقة. ومن تلك الشروط أيضاً تحديد حاجات التنمية الاجتماعية والتغير الاجتماعي. فإذا كان للتربية أهداف اقتصادية، فإن لها كذلك أهدافاً اجتماعية وإنسانية تتمثل في تكوين فكر إنساني معتمد على العلم وموجّه نحو الخير والحق. فالتعليم وسيلة أساسية للتفاعل الاجتماعي، وهو أيضاً استثمار للطاقة البشرية التي تمثل أهم عناصر الإنتاج. ومما لا شك فيه أن لتطور الخدمات التعليمية أثراً كبيراً في استقرار قوة العمل الوافدة وجذب المزيد منها، لارتباط هذه الخدمات بمستقبل أبنائهم، ومن هنا كان من أهم العوامل الأساسية في تحديد جهة الاستقرار والحركة للقوى العمالية الوافدة هو مستوى الخدمات التعليمية وتطورها: فبقدر ما تمنح الدولة خدمات وتيسر انتساب أبناء الوافدين إلى مدارسها، فإنها تسهم باستقرار قوة العمل الوافدة وانخراطها في المجتمع.
وما ينطبق على التعليم ينطبق كذلك على التدريب المهني وتوفير الخدمات الصحية والترويحية والسكنية وغيرها من الأسس الاجتماعية المهمة لتنشيط العملية الاقتصادية.
إن التنمية الاقتصادية لا تحقق أهدافها الكاملة إلا إذا سايرتها تنمية في مجال الخدمات الاجتماعية تلبي حاجات الاقتصاد من العناصر الفنية المدربة وتخلق قاعدة متعلمة تستوعب التقدم الاقتصادي وتعمقه وتوفر خدمات تضمن الاستقرار النفسي والاجتماعي والصحي لجميع أفراد المجتمع.
ويتم توضيح الأساس الاجتماعي لعملية التنمية بدراسة للأنظمة القائمة في الأقطار العربية في نواح عدة منها: النظم والمؤسسات الاجتماعية، والتربية والتعليم والتدريب المهني، والصحة، والترويح واستغلال أوقات الفراغ، والوعي الاجتماعي والمشاركة الفعالة في النشاطات الحيوية والأساسية.
ـ التصدي للعقبات الاجتماعية التي تحول دون عملية التنمية: هناك عقبات من نوع اجتماعي تحول دون تنفيذ عملية التنمية. ومن ذلك ما في البيئة الاجتماعية من العادات والتقاليد والوظائف المختلفة للتركيبات الاجتماعية التقليدية.
فالبناء الاجتماعي الذي يعتمد على الترابط القوي داخل الوحدة الاجتماعية ترابطاً يحد من التفاعل مع الوحدات الاجتماعية الأخرى يقف عقبة في طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ إن عملية التنمية هذه تعتمد على التحرك والتغير والتفاعل الاجتماعي بين جميع أفراد المجتمع وإسهامهم البنّاء في رسم صورة المجتمع الحديث.
ومن هنا تبرز مسؤولية المخطط الاجتماعي أو المنظم والعامل في إطار التنمية الاجتماعية في أن يعمل على تغيير تركيب هذه البنية الاجتماعية الموجودة. وتتم عملية التغيير هذه عن طريق التأثير في هذا النظام وتفتيته ومن ثم إيجاد نظام جديد لتلك الهيئة يقوم مقام النظام السابق ويلبي متطلبات التغير الاجتماعي التي تعد أساساً لعملية التنمية.
وتتمثل العقبات الاجتماعية بمستويات متعددة، بعضها يتعلق بالتركيب الاجتماعي. وبعضها بالوظيفة الاجتماعية لذلك التركيب، وبعضها في مستوى العلاقات الاجتماعية والظواهر والتقاليد، ومن تلك العقبات المتعددة والمتنوعة في المجتمع العربي يذكر تركيب العائلة العربية في المرحلة التقليدية، والتشتت السكاني، والتركيب الاجتماعي، وبعض العادات والتقاليد الاجتماعية وانخفاض نسبة مشاركة المرأة العربية في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، وتوزيع الدخل والتخلخل السكاني وبعض الاتجاهات العامة نحو العمل، والوقت.
ولعل التركيز على الموضوعات التالية يعين على فهم بعض العقبات الاجتماعية التي تقف في طريق التنمية في الوطن العربي: البُنى والتراكيب الاجتماعية التي تقف في طريق التنمية، والعائلة التقليدية والتركيب الاجتماعي الطبقي، والتشتت السكاني وتركيبه وتوزيعه، والتفاعل الاجتماعي بين الوحدات الاجتماعية ضمن المدينة والريف وبينهما، والقيم التي تحد من الحراك الاجتماعي، والحوافز الاجتماعية، وإسهام المرأة في العمل، والظواهر والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تؤثر في نمط العلاقات الاجتماعية.
ـ مواجهة المشكلات الاجتماعية التي تنشأ عن عدم التوازن بين العلاقات الاجتماعية والتغير في البيئة الاقتصادية: إن التغيير في البيئة الاقتصادية قد تواكبه مشكلات اجتماعية خطيرة إذا لم يحسن توجيهه. وقد بدأت تظهر في الدول النامية مشكلات اجتماعية ترتبط بنشاطات اقتصادية جديدة. ومن هذه المشكلات ارتفاع نسبة الجرائم، وانحرافات الأحداث، والطلاق. ويكون في جملة الطرائق التي تعتمد في مواجهة مثل هذه المشكلات القضاء على الظروف التي تؤدي إليها، وإيجاد الحلول المناسبة للمشكلات التي تنشأ في أثناء عملية التغيير الاجتماعي وبعدها، والعمل على تفادي تلك المشكلات والتصدي لها قبل استفحالها.
وقد أضحت مسائل التكيف الاجتماعي مع التغيرات الاقتصادية والتقنية (التكنولوجية) المتلاحقة مما يثير قلق علماء النفس والاجتماع، إذ إنها تفرض أنماطاً من السلوك المتجدد المتطور. والتغيرات المستمرة في تلك الأنماط قد تخلق اضطرابات تترك لمساتها على شخصية الإنسان واستقراره النفسي والاجتماعي. وقد أوضحت الدراسات المتعددة من أيام ابن خلدون أن مسائل التغير الاجتماعي لها انعكاسات على أنماط السلوك المختلفة تمتد إلى الجوانب السياسية والأخلاقية.
ومن أهم المشكلات الاجتماعية التي يمكن أن تنشأ عن عملية التغير السريع تفكك الأسرة والطلاق، والجريمة وانحراف الأحداث، وسوء التكيف الاجتماعي، وتكوّن أنماط جديدة من الاستهلاك وتلوث البيئة.
ـ ضرورة رسم سياسة اجتماعية لتضييق الهوة بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي: إن التقدم الاقتصادي، كما هو معلوم، يسير عادة بخطوات سريعة على خلاف التغير في العلاقات الاجتماعية الذي يحتاج إلى وقت أرحب. فقد يكون من السهل إنشاء مصنع في غضون عام أو أقل، غير أن بناء قيم التصنيع، وما تحتاج إليه وما تقتضيه من سلوك اجتماعي لا يتوافر بمثل تلك السهولة وفي ذلك الزمن المحدود.
والمثال على هذه الظاهرة إيجاد مصنع حديث في بيئة اجتماعية تقليدية. فالتخلف الاجتماعي في هذه البيئة ينعكس على النشاط الإنتاجي داخل المصنع ويستلزم الأمر عندئذ التصدي لمعالجة التناقضات التي تنشأ عن ذلك.
__________________________
المرجع /محمد صفوح الأخرس، علم الاجتماع (منشورات جامعة دمشق، المطبعة الجديدة، دمشق 1983-1984).
ويهتم الجانب التطبيقي في علم الاجتماع بدراسة أساليب الانتفاع من الحقائق النظرية والقوانين الاجتماعية الطبيعية في رسم السياسة التنموية وبرامجها من أجل تحقيق النقلة النوعية للمجتمعات والجماعات المدروسة.
ويعتمد المخطط والباحث في علم الاجتماع على محاور عدة، تتلخص بما يأتي:
ـ رسم الصورة الاجتماعية لعملية التغيير الاقتصادي والاجتماعي: ويكون ذلك بتحديد وجهة التغير الاجتماعي وكذلك التغيرات المقصودة المزمع إحداثها في البيئة الاقتصادية والتركيب الاجتماعي. إن تحديد الأهداف الاستراتيجية لعملية التنمية من الأمور التي يجب أن يعنى بها عالم الاقتصاد والاجتماع والسياسة. فالاختيار بين التصنيع والنشاط التجاري، أو التحول من أحدهما إلى الآخر، أو الوصول إلى المزيج الأفضل في مرحلة زمنية معينة، مسائل ترتبط بخلايا اقتصادية واجتماعية على حد سواء، وإن رسم الصورة الاجتماعية لعملية التغير الاقتصادي والاجتماعي تتعدى الأمور الاقتصادية لتتناول نوع الخدمات الاجتماعية، ونسبة زيادة الدخل القومي،وكيفية توزيعه، وسياسة محو الأمية، وتعميم الخدمات التعليمية وتحسينها، وربط التعليم والتدريب بخطط التنمية، وتوفير المناخ الاجتماعي المناسب لتفاعل الناس مع معطيات الشروط الجديدة للتقدم والوصول إلى عملية التشغيل الكامل، أي ضمان حق كل فرد في العمل، والقضاء على البطالة، ورفع مستويات العمالة في كل المناطق، والعمل على توفير الشروط الاجتماعية المناسبة التي تعمل على استقرار قوة العمل الوافدة، ودفعها إلى تكوين شريحة سكانية منصهرة في بوتقة المجتمع المحلي، وذلك في المجتمعات التي تتصف بندرة المهارات الفنية وضيق القاعدة السكانية، وباختصار فإن رسم الصورة الاجتماعية لعملية التغير الاقتصادي والاجتماعي تتمثل بتوفير الاحتياجات الاجتماعية للأفراد وربطها بشروط التقدم المتطورة من خلال رسم استراتيجية عامة للتنمية تتفاعل فيها الأهداف الاقتصادية مع الأهداف الاجتماعية في حركية مستمرة وموازنة دائمة بين الحاجات والإمكانات.
وتؤلف الموضوعات التالية تحديداً للعناصر الأساسية التي يمكن مناقشتها نقاط ارتكاز لبحوث اجتماعية في نطاق المحور الأول: تركيب القوى الاجتماعية الرئيسية في الوطن العربي وخصائصها، ومجتمعات «الأنهار» ومجتمعات «الأمطار»، والعلاقة بين النخبة الزراعية والصناعية، ومنحى التغير الاجتماعي وأنماطه، وتحديد بعض الأهداف الاجتماعية لعملية التغير: ويشمل تحديد الأهداف الاجتماعية لعملية التغير في البلاد العربية: نوع الخدمات الاجتماعية ومستواها، والعمالة والاستخدام، ومحو الأمية، وتوزيع الدخل ومسألة الموازنة بين العمل والأجر والتكامل الاجتماعي العربي، وتغير العلاقات الإنتاجية في الريف، والإصلاح الزراعي وآثاره الاجتماعية.
ـ توضيح الأساس الاجتماعي لعملية التنمية الاقتصادية: ويتم ذلك بتحليل الأوضاع الاجتماعية اللازمة لعملية التنمية. فالتعليم مثلاً الذي يعد شرطاً ضرورياً لعملية التنمية الاقتصادية يجب أن ينظر إلى تأثره بالوعاء الاجتماعي وتأثيره فيه، وبالتالي فإن سياساته يجب أن تأخذ في حسابها المتغيرات الاجتماعية والسكانية المختلفة التي تميز مجتمعاً من مجتمع آخر. وعند ذكر التعليم تجمل كل المراحل التعليمية ابتداء من دور الحضانة وانتهاء بالدراسات العليا، فهو استثمار، موضوعه الإنسان، يمر بمراحل متصلة تتعاقب آثارها. ويؤكد علماء التربية، والمتخصصون في ميادين التعليم ذلك التلازم بين التعليم والإنتاج تأكيداً يدفعهم إلى حد القول إن الثورة التقنية (التكنولوجية) ترتبط إلى حد بعيد بالثورة التعليمية. ويتضمن العمل الاجتماعي في مجال التعليم جملة من المسائل أهمها ما يتعلق بسياسة القبول في المعاهد والجامعات، التي يجب أن تستند إلى حاجات النشاطات الاقتصادية والاجتماعية من القوى العاملة من جهة، والأطر الاجتماعية والقاعدة السكانية من جهة ثانية، فقد يرى المخطط مثلاً خفض السن الإلزامية للتعليم وتقصير المراحل التعليمية في مجتمعات تبرز الحاجة فيها لأعداد متزايدة من الخريجين وتؤذيها الموارد البشرية المحدودة والقاعدة السكانية الضيقة. ومن تلك الشروط أيضاً تحديد حاجات التنمية الاجتماعية والتغير الاجتماعي. فإذا كان للتربية أهداف اقتصادية، فإن لها كذلك أهدافاً اجتماعية وإنسانية تتمثل في تكوين فكر إنساني معتمد على العلم وموجّه نحو الخير والحق. فالتعليم وسيلة أساسية للتفاعل الاجتماعي، وهو أيضاً استثمار للطاقة البشرية التي تمثل أهم عناصر الإنتاج. ومما لا شك فيه أن لتطور الخدمات التعليمية أثراً كبيراً في استقرار قوة العمل الوافدة وجذب المزيد منها، لارتباط هذه الخدمات بمستقبل أبنائهم، ومن هنا كان من أهم العوامل الأساسية في تحديد جهة الاستقرار والحركة للقوى العمالية الوافدة هو مستوى الخدمات التعليمية وتطورها: فبقدر ما تمنح الدولة خدمات وتيسر انتساب أبناء الوافدين إلى مدارسها، فإنها تسهم باستقرار قوة العمل الوافدة وانخراطها في المجتمع.
وما ينطبق على التعليم ينطبق كذلك على التدريب المهني وتوفير الخدمات الصحية والترويحية والسكنية وغيرها من الأسس الاجتماعية المهمة لتنشيط العملية الاقتصادية.
إن التنمية الاقتصادية لا تحقق أهدافها الكاملة إلا إذا سايرتها تنمية في مجال الخدمات الاجتماعية تلبي حاجات الاقتصاد من العناصر الفنية المدربة وتخلق قاعدة متعلمة تستوعب التقدم الاقتصادي وتعمقه وتوفر خدمات تضمن الاستقرار النفسي والاجتماعي والصحي لجميع أفراد المجتمع.
ويتم توضيح الأساس الاجتماعي لعملية التنمية بدراسة للأنظمة القائمة في الأقطار العربية في نواح عدة منها: النظم والمؤسسات الاجتماعية، والتربية والتعليم والتدريب المهني، والصحة، والترويح واستغلال أوقات الفراغ، والوعي الاجتماعي والمشاركة الفعالة في النشاطات الحيوية والأساسية.
ـ التصدي للعقبات الاجتماعية التي تحول دون عملية التنمية: هناك عقبات من نوع اجتماعي تحول دون تنفيذ عملية التنمية. ومن ذلك ما في البيئة الاجتماعية من العادات والتقاليد والوظائف المختلفة للتركيبات الاجتماعية التقليدية.
فالبناء الاجتماعي الذي يعتمد على الترابط القوي داخل الوحدة الاجتماعية ترابطاً يحد من التفاعل مع الوحدات الاجتماعية الأخرى يقف عقبة في طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ إن عملية التنمية هذه تعتمد على التحرك والتغير والتفاعل الاجتماعي بين جميع أفراد المجتمع وإسهامهم البنّاء في رسم صورة المجتمع الحديث.
ومن هنا تبرز مسؤولية المخطط الاجتماعي أو المنظم والعامل في إطار التنمية الاجتماعية في أن يعمل على تغيير تركيب هذه البنية الاجتماعية الموجودة. وتتم عملية التغيير هذه عن طريق التأثير في هذا النظام وتفتيته ومن ثم إيجاد نظام جديد لتلك الهيئة يقوم مقام النظام السابق ويلبي متطلبات التغير الاجتماعي التي تعد أساساً لعملية التنمية.
وتتمثل العقبات الاجتماعية بمستويات متعددة، بعضها يتعلق بالتركيب الاجتماعي. وبعضها بالوظيفة الاجتماعية لذلك التركيب، وبعضها في مستوى العلاقات الاجتماعية والظواهر والتقاليد، ومن تلك العقبات المتعددة والمتنوعة في المجتمع العربي يذكر تركيب العائلة العربية في المرحلة التقليدية، والتشتت السكاني، والتركيب الاجتماعي، وبعض العادات والتقاليد الاجتماعية وانخفاض نسبة مشاركة المرأة العربية في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، وتوزيع الدخل والتخلخل السكاني وبعض الاتجاهات العامة نحو العمل، والوقت.
ولعل التركيز على الموضوعات التالية يعين على فهم بعض العقبات الاجتماعية التي تقف في طريق التنمية في الوطن العربي: البُنى والتراكيب الاجتماعية التي تقف في طريق التنمية، والعائلة التقليدية والتركيب الاجتماعي الطبقي، والتشتت السكاني وتركيبه وتوزيعه، والتفاعل الاجتماعي بين الوحدات الاجتماعية ضمن المدينة والريف وبينهما، والقيم التي تحد من الحراك الاجتماعي، والحوافز الاجتماعية، وإسهام المرأة في العمل، والظواهر والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تؤثر في نمط العلاقات الاجتماعية.
ـ مواجهة المشكلات الاجتماعية التي تنشأ عن عدم التوازن بين العلاقات الاجتماعية والتغير في البيئة الاقتصادية: إن التغيير في البيئة الاقتصادية قد تواكبه مشكلات اجتماعية خطيرة إذا لم يحسن توجيهه. وقد بدأت تظهر في الدول النامية مشكلات اجتماعية ترتبط بنشاطات اقتصادية جديدة. ومن هذه المشكلات ارتفاع نسبة الجرائم، وانحرافات الأحداث، والطلاق. ويكون في جملة الطرائق التي تعتمد في مواجهة مثل هذه المشكلات القضاء على الظروف التي تؤدي إليها، وإيجاد الحلول المناسبة للمشكلات التي تنشأ في أثناء عملية التغيير الاجتماعي وبعدها، والعمل على تفادي تلك المشكلات والتصدي لها قبل استفحالها.
وقد أضحت مسائل التكيف الاجتماعي مع التغيرات الاقتصادية والتقنية (التكنولوجية) المتلاحقة مما يثير قلق علماء النفس والاجتماع، إذ إنها تفرض أنماطاً من السلوك المتجدد المتطور. والتغيرات المستمرة في تلك الأنماط قد تخلق اضطرابات تترك لمساتها على شخصية الإنسان واستقراره النفسي والاجتماعي. وقد أوضحت الدراسات المتعددة من أيام ابن خلدون أن مسائل التغير الاجتماعي لها انعكاسات على أنماط السلوك المختلفة تمتد إلى الجوانب السياسية والأخلاقية.
ومن أهم المشكلات الاجتماعية التي يمكن أن تنشأ عن عملية التغير السريع تفكك الأسرة والطلاق، والجريمة وانحراف الأحداث، وسوء التكيف الاجتماعي، وتكوّن أنماط جديدة من الاستهلاك وتلوث البيئة.
ـ ضرورة رسم سياسة اجتماعية لتضييق الهوة بين التقدم الاقتصادي والاجتماعي: إن التقدم الاقتصادي، كما هو معلوم، يسير عادة بخطوات سريعة على خلاف التغير في العلاقات الاجتماعية الذي يحتاج إلى وقت أرحب. فقد يكون من السهل إنشاء مصنع في غضون عام أو أقل، غير أن بناء قيم التصنيع، وما تحتاج إليه وما تقتضيه من سلوك اجتماعي لا يتوافر بمثل تلك السهولة وفي ذلك الزمن المحدود.
والمثال على هذه الظاهرة إيجاد مصنع حديث في بيئة اجتماعية تقليدية. فالتخلف الاجتماعي في هذه البيئة ينعكس على النشاط الإنتاجي داخل المصنع ويستلزم الأمر عندئذ التصدي لمعالجة التناقضات التي تنشأ عن ذلك.
__________________________
المرجع /محمد صفوح الأخرس، علم الاجتماع (منشورات جامعة دمشق، المطبعة الجديدة، دمشق 1983-1984).